سيزور الرئيس الأميركي جو بايدن المنطقة في جولة أولى متأخرة، مستهدفًا أساسًا الحصول على النفط والغاز لتعويض مصادر الطاقة الروسية، ودفع قطار التطبيع العربي الإسرائيلي، من خلال تشجيع السعودية على السير على طريق من سبقها من ركابه، وخصوصًا الإمارات، والبحث في إمكانية إقامة "ناتو" أميركي إسرائيلي عربي لتعزيز أمن إسرائيل ودورها في المنطقة. أما القضية الفلسطينية فهي في آخر سلم اهتماماته، خصوصًا أن إسرائيل تمر في مرحلة انتقالية تستعد فيها لانتخابات الفائز فيها أيًا يكون سيتبنى برنامجًا عدائيًا استيطانيًا عنصريًا ضد الفلسطينيين، ويسعى لمواصلة التطبيق التدريجي لصفقة القرن، كونها لا يمكن تطبيقها كاملة مرة واحدة كما طرحها الرئيس دونالد ترامب. لذا، فإن الاهتمام بالقضية الفلسطينية في أقصى الحالات يستهدف الحفاظ على الوضع الراهن، ومنعه من الانهيار، وسقفه أمني اقتصادي، سواء فيما يخص الضفة الغربية أو قطاع غزة، وخطوات بناء الثقة، والبحث عن أفق سياسي وليس حلًا شاملًا.
لو و"لو تفتح عمل الشيطان" كان الفلسطينيون موحدين وينطلقون من رؤية وقيادة واحدة؛ لكان تأثيرهم أكبر بصورة مضاعفة مرات عدة على زيارة بايدن، وعلى كل ما يجري في المنطقة، وقطعوا الطريق على تهميش القضية الفلسطينية، وحققوا انتصارات تتناسب مع تضحياتهم وبطولاتهم الملهمة، ولكن القيادة بمختلف مكوناتها مشغولة إما بسياسة البقاء والانتظار والتهديدات اللفظية المملة من كثرة تكرارها من دون تطبيق، لدرجة أن لا أحد بات يأخذها على محمل الجد، أو بسياسة مغامرة تراهن على المجهول والغيبيات، وعلى نهوض المارد العربي أو الإسلامي أو الأممي.
وأكبر مثال على ذلك نتائج الاجتماع الأخير للجنة التنفيذية وردود فعل المعارضة عليه؛ إذ أكد الاجتماع المؤكد، وهو أن اللجنة التنفيذية مجرد هيئة استشارية لا تقرر، فالرئيس هو صاحب القرار، واجتماعها منه عدمه لا يغير شيئًا، والمعارضة من داخل المنظمة وخارجها لا تملك سوى الانتقاد وتسجيل موقف للتاريخ من دون بلورة بديل نظري سياسي عملي قادر على تغيير المسار.
من المفترض بالبديل الفلسطيني أن ينطلق من أولويات وإستراتيجيات تستجيب للمصالح والاحتياجات والأهداف الفلسطينية، بما يقتضي التركيز على أولوية بلورة المشروع الوطني وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، ضمن رؤية إبداعية تتجاوز حوار الطرشان واتفاقات المصالحة التي تجاهلت قضايا جوهرية، وعلى الرغم من ذلك بقيت حبرًا على ورق بلا تنفيذ، وتغيير السلطة لتكون بمستوى التحديات والمخاطر، ولتناسب تجاوز الحكومات الإسرائيلية لاتفاق أوسلو والتزاماته، واتباع سياسات تهدف إلى فرض الاستقلال خطوة خطوة ومدماكًا وراء مدماك، من خلال السعي لإنهاء الاحتلال وإزالة الاستعمار الاستيطاني، وإنجاز حق العودة والمساواة، وإعادة بناء منظمة التحرير من خلال الاتفاق أولًا، عبر حوار وطني تمثيلي شامل، على تشكيل قيادة أو هيئة قيادية مؤقتة وطنية لا يزيد عمرها على عام، ولا تكون نتيجة محاصصة فصائلية ثنائية أو شاملة، وإنما وطنية عامة إلى حين تجديد شرعية المؤسسات كافة عبر الانتخابات العامة والمحلية والنقابية، وعلى كل المستويات والأصعدة.
كما تتضمن الرؤية ضرورة الجمع واستخدام أوراق القوة والضغط السياسية والقانونية والإعلامية والجماهيرية، خصوصًا المقاومة الشعبية والديبلوماسية الدولية، مع الاحتفاظ بحق استخدام المقاومة المسلحة في الوقت والزمان المناسبين وضد الأهداف المناسبة، وعلى أساس أنها دفاعية في هذه المرحلة مع أهمية العمل لاستعادة طابع التحرر الوطني للنظام السياسي الفلسطيني من دون القفز عن مهمات البناء الديمقراطي.
وفي هذا السياق، لا بد من الإدراك بأن لا تسوية وطنية على الأبواب، ونحذر من المراهنة على رئاسة يائير لبيد للحكومة الإسرائيلية خلال الفترة الانتقالية، فهو يمكن أن يعطي بعض الكلام المعسول، فهو يرأس حكومة لا تملك القرار في أي قضية جوهرية خلافية، وسيكتفي بالحديث عن "الأفق السياسي" للتغطية على السياسة المستمرة بغض النظر عمن يرأس الحكومة. كما لا بد من إدراك أنه لن يكون هناك إنجازٌ وطنيٌ عن طريق التنازلات والمفاوضات من دون التسلح بأسباب القوة، وأن أي انتصار لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التخلي عن الرهانات الخاسرة والأوهام الضارة، وتغيير موازين القوى على الأرض، ضمن عملية تاريخية لا يمكن إنجازها بالضربة القاضية وبسرعة، وذلك ضمن فهم وإدراك أننا نمر بمرحلة دفاع إستراتيجي، وليس في مرحلة توازن أو هجوم إستراتيجي، تتطلب الحفاظ على القضية حية، والذات، والمكاسب المتبقية، والوجود الفلسطيني البشري على أرض فلسطين، وتعزيز الصمود الفلسطيني، خصوصًا في المناطق المهمشة والمصادرة والمعرضة للاستيطان والتهويد، وتقليل الأضرار والخسائر، وإحباط المخططات الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، من خلال التصفية الشاملة أو المتدرجة.
وإلى أن تحين لحظة حصول التغير الوطني الدراماتيكي التاريخي، يجب عدم الاكتفاء بالتنديد والرفض، أو بالمناشدة والمطالبة بإنهاء الانقسام تارة ممن له مصلحة في بقائه، أو بتشكيل إطار قيادي مؤقت، أو تفعيل الإطار المشكل وفق اتفاق القاهرة تارة ثانية، أو بإجراء الانتخابات تارة ثالثة ممن لا يريدون إجراءها، وهم لا ينحصرون في الرئيس وفريق دون آخر، بل هناك بنية كاملة سياسية اقتصادية ثقافية أمنية اجتماعية، وتضم جماعات مصالح الانقسام الذين لا يريدون إنهاءه؛ لأنه حقق لهم مكاسب ونفوذًا وثروة لم يحلموا بها، ومن يخشون من فقدان السيطرة الفردية والفئوية والفصائلية على السلطتين المتنازعتين في الضفة وغزة، ويشمل ذلك معظم الفصائل والقوائم التي تنفست الصعداء؛ لأن الانتخابات ألغيت كون إجراؤها كما تدل الاستطلاعات سيمكّن عددًا قليلًا منها لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة من تجاوز نسبة الحسم، وكذلك تضم من يخشون من عواقب وتداعيات سقوط من لا يرضى العالم والإقليم والاحتلال عن خسارتهم، وفوز من لا يقبل فوزهم، وإلا سيكون مصيرهم المعتقلات الإسرائيلية أسوة بمن سبقهم من النواب الذين اعتقلوا، وبعضهم لا يزال في السجون الإسرائيلية حتى الآن، هذا إذا لم تزور الانتخابات واعترف بنتائجها!
إنّ إجراء الانتخابات في المدى المباشر مستبعد؛ لأن القوى التي تريدها لا تملك القوة الكافية لفرضها، ولأن الخبرة السابقة بيّنت أن قطار الانتخابات تحرك فقط بعد تفاهمات إسطنبول، التي تضمنت تأجيل البحث في إنهاء الانقسام والبرنامج الوطني والاتفاق على خوض الانتخابات بقائمة واحدة تضم مرشحي "فتح" و"حماس" ومن يرغب من الفصائل الأخرى، وعلى أن يكون الرئيس محمود عباس مرشحًا توافقيًا للانتخابات الرئاسية. وتَوَقَّفَ قطار الانتخابات بسبب المعارضة الداخلية والخارجية لهذه التفاهمات، خصوصًا معارضة الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، لأنهما لا تريدان إعطاء شرعية لحركة حماس، حتى لو بضمان عدم حصولها على الأغلبية في الانتخابات.
تأسيسًا على ما سبق، وعلى أن فلسطين تحت الاحتلال، وهو ليس متفرجًّا على ما يفعله الفلسطينيون من دون أن يحرك ساكنًا، بل يتحرك لمنع الانتخابات إذا أراد، ويتدخل في كل مراحلها للتأثير فيها ويصادر نتائجها إذا لم تناسبه؛ لا يمكن أن تكون الانتخابات – في هذا السياق - هي المدخل لتجاوز المأزق الشامل الذي يمر به النظام السياسي بمختلف مكوناته، لا يمكن أن تكون انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها تحت الاحتلال، وفي ظل الانقسام، والصراع الحاد بين سلطتين تريد كل واحدة هزيمة السلطة الأخرى، إلا في حالة تبلور مشروع وطني مصمم على إنهاء الانقسام على أسس وطنية وديمقراطية وأنجز حالة توافق وطني يؤيدها معظم الشعب الفلسطيني بأفراده وقواه الحية.
الانتخابات ليست هدفًا بحد ذاتها، وإنما وسيلة لتحقيق هدف، وهي لا يمكن أن تحدث التغيير المأمول إلا إذا كانت هناك أدوات وقوى وحراكات تتبنى برنامجًا قادرًا على إحداث التغيير؛ حيث تستخدم الانتخابات إذا جرت لإحداثه وحدها، ومطلوب ربطها برؤية ورزمة شاملة. قوى وحراكات تسعى لإحداث التغيير حتى لو لم تجر الانتخابات عن طريق حراك سياسي شعبي كبير. من هنا، فالتركيز على إجراء الانتخابات وحدها مضيعةٌ للوقت، وحرفٌ للأنظار عما يجب عمله، فلا بد من التركيز على بلورة وإحياء المشروع الوطني التي ستكون الانتخابات أداة من أدواته، وليس بديلًا له.
وما يعزز هذه الرؤية أن القوى الفلسطينية المهيمنة لا تريد الانتخابات، ويدعمها اللاعبون الإقليميون والدوليون المؤثرون على الوضع الداخلي الفلسطيني، وعلى رأسهم الاحتلال الذي يؤدي دورًا رئيسيًا لا يمكن التقليل من شأنه أبدًا. وهو لن يسمح بإجراء انتخابات من شأنها أن تقوي الفلسطينيين وتوحدهم في مواجهته، إلا إذا اضطر إلى ذلك، ولا أعتقد أنه الآن في موقع الاضطرار، أو قريب منه.
وإذا كان رفض الانتخابات من الرئيس وفريقه واضحًا، فإن عدم الحماسة لإجرائها واضحًا كذلك عند حركة حماس وغيرها من الفصائل، بدليل عدم تنظيم معارضة جدّية ولو من خلال تنظيم مظاهرة واحدة كبيرة ضد إلغاء الانتخابات، إضافة إلى عدم إجراء الانتخابات المحلية والقطاعية في قطاع غزة الخاضع لحكم "حماس".
وإذا سلمنا جدلًا أن إسرائيل غيّرت موقفها ووافقت على إجراء الانتخابات فهذا سيحدث عندما تكون جزءًا من عملية سياسية تصفوية أو مضمونة النتائج، أو ستكون قفزة إلى المزيد من الانقسام، كما كانت الانتخابات السابقة منصة لوقوع الانقسام منذ 15 عامًا؛ ما أدى إلى تجذره، كما يظهر في وجود أجهزة أمنية وقضاء ووزارات ومؤسسات تابعة للسلطة في كل من الضفة والقطاع؛ ما أنعش كل مظاهر الحكم غير الرشيد، والفساد، وضرب سيادة القانون، لدرجة القول أن توقع انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها في مثل هذا الوضع أقل ما يقال فيها سذاجة سياسية كاملة.
فأي انتخابات لا تضمن لمن يفوز بالأغلبية قيادة الحكم ليست حرة، وأكبر دليل على ذلك الوضع في فلسطين، فإذا فازت "حماس" كيف ستتمكن في ظل الانقسام وتحت الاحتلال من ممارسة الحكم في الضفة الغربية، وإذا فازت "فتح" فكيف ستمارس الحكم في قطاع غزة، وبالتالي لا بديل من الوفاق الوطني، والاحتكام إلى قواعد العمل الجبهوي؛ حيث يكون التنافس في إطار الوحدة.
فمن أهم الأخطاء التي ارتكبت سابقًا، ولا يجب السماح بتكرارها، الذهاب إلى انتخابات من دون الاتفاق على أهدافها والقواعد التي تحكمها، وكيف يمكن منع تدخلات الاحتلال من منعها ومصادرة نتائجها إذا جرت.
الانتخابات وحدها ليست الديمقراطية، حتى في البلدان المستقلة، فكيف في المحتلة، وإجراؤها من دون توفير مستلزماتها لا يحقق إرادة الشعوب على أساس أنها شكل من أشكال ممارسة الحرية المفقودة جراء الاحتلال الذي يهدد مرشحين بالاعتقال إذا ترشحوا، ويعتقل غير المرغوب فيهم إذا فازوا.
الوفاق الوطني على أساس مشروع وطني وإنهاء الانقسام شرطٌ لتوفّر الحد الأدنى من مستلزمات إجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، وإذا كان ذلك مستحيلًا، وهو الآن كذلك، فإن إجراء انتخابات تعكس إرادة الشعب مستحيلٌ بصورة أكبر. لذا، لا مفر من وضع الانتخابات في السياق الفلسطيني، حتى تكون خطوة إلى الأمام وليست قفزة في المجهول، فالانشغال بها وحدها مضيعة للوقت، والوقوع أسرى لأوهام خادعة.
إذا كان إنهاء الانقسام متعذرًا، والتوافق على قيادة انتقالية مستبعد جداً، وإجراء الانتخابات ممنوع حتى إشعار آخر، وهي ليست المدخل لتجاوز المأزق الشامل، فلا بد من العمل من أجل أن تحصل ضمن الرزمة الشاملة التي تتضمن المشروع الوطني، والسعي للحصول على التأييد الجماهيري المتعاظم القادر على فرض تغيير المسار، ومن ضمنه إجراء الانتخابات.
كما لا بد من التركيز على تشكيل قوة أو مجموعة القوى أو الحراكات التي تحمل رؤى وبرنامجًا للتغيير، وقادرة على الضغط السياسي والجماهيري والتأثير أكثر وأكثر على القوى الداخلية والخارجية التي تعيق إجراء الانتخابات، حتى تتمكن من فرض إجراء الانتخابات.
وفي الختام، إن معظم الفلسطينيين مع إجراء الانتخابات، ومعظمهم مع إنهاء الانقسام، ومع تشكيل قيادة انتقالية إلى حين تجديد شرعية المؤسسات، ولكن لا توجد القوة أو القوى القادرة على تحقيق ذلك. فالمطلوب العمل من أجل إيجادها، ومفتاح التقدم على هذا الطريق هو بلورة مشروع وطني قادر على حشد واستنهاض أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، فمن دون وضع الانتخابات في سياق معركة الشعب الفلسطيني من أجل التحرر، وفي مواجهة الاحتلال وإحباط مخططاته، لا قيمة للانتخابات ولا غيرها، فالحلقة المركزية هي توفير مستلزمات إنجاز المشروع الوطني، وليس التوهان في البحث عن بدائل ومداخل لا تؤدي إلى تحقيقها.