شبكة قدس الإخبارية

كتبوا وصاياهم بالدم

"براء ويوسف وليث".. أقمارٌ تنافسوا على المقاومة والشهادة

288843414_756636985351638_1522132566196110953_n
يحيى موسى

جنين - خاص قدس الإخبارية: لم يكن براء لحلوح الذي جمع أصدقاءه الخميس الماضي، يعلم أنه سيكون اجتماع وداع وآخر جلسةٍ تجمعه معهم بحضور والده. مساءً، تعالت ضحكات الأصدقاء وهم يمازحون صديقهم براء الملقب بـ "الشيشاني" تيمنًا بالشهيد أدهم مبروكة الذي استشهد برفقة الشهيدين محمد الدخيل، وأشرف مبسلط في نابلس في شباط/ فبراير الماضي شهيدًا قبل نيلها.

تهادى إلى سمع الوالد ما قاله أحد أصدقاء ابنه ممازحًا على هيئة سؤالٍ: "متى راح تستشهد!؟" ليجيب براء بذات الطريقة "بالنسبة اللي قربت"، وكأنَّه يشيع نفسه أمامهم دون أن يدري!، لم يرق المزاح لوالده "خلص ما تتضلوا تتهبلوا (تمزحوا)"، ثم أكمل براء سهرته مع والديه بعدما انصرف أصدقاؤه، وتناول طعام عشاء أعده والده بناء على طلبه.

خلال تناول براء وعائلته العشاء، قدمت له أمه عرضًا يرغب به أي شاب، قالت له: "بدي أخطبلك". سبقت ابتسامة براء، إجابته، وهو يرفض العرض "بدي أخطب من الحور العين". والده الذي لا يريد أن يعيش مراسم الوداع طلب تغيير الحديث، سرعان ما استأذن براء والديه وخرج إلى بيت "أجرٍ" كما أخبرهم.

قوة خاصة تابعة لجيش الاحتلال تسلّلت إلى الحي الشرقي من مدينة جنين فجر الجمعة، وأطلقت وابلًا من الرصاص الحي باتجاه المركبة التي كان يستقلها براء برفقة الشابين يوسف صلاح وليث أبو سرور، ما أدى إلى استشهادهم على الفور، بنفس الطريقة التي استشهد فيها الشهيد الشيشاني.

براء "الشيشاني"

على وقع آذان العشاء، وأصوات المعزين، جرح الفراق يلسع قلب والده كمال لحلوح وهو يتحدث لـ "شبكة قدس" قائلاً: "كنت في أي لحظة متوقع خبر استشهاد ابني براء، فقد كان قائدًا ميدانيًا في المقاومة بالمخيم ومطلوب للاحتلال، وها هو اسمه وسيطه يصل إلى مدن أخرى كالخليل ونابلس وطولكرم، وهذا فخرٌ لي".

الشهر الماضي، بعد اشتباكات عنيفة استمرت لست ساعات بين مقاومي جنين وقوات الاحتلال، انتهت باعتقال المطارد محمود الدبعي بعد محاصرة منزله واستهدافه بالقذائف، اقتحمت القوات منزل لحلوح، تطفو بقية التفاصيل على حديث والده حول ما جرى "في المرة الأولى جاؤوا للبيت وطلبوا مني أن أسلمه، فأخبرتهم: أنني لا أستطيع تسليمه، فقال لي أحد الضباط: حنطوله بطريقتنا الخاصة، فقلت له افعل ما تريد وبعد الاشتباكات بمنزل عائلة الدبعي، اتصلوا بوالدته".

"مرحبا حجة؛ وين براء؟؛ بدنا إياه!".. هكذا بدأ الاتصال، ثم واصل ضابط الاحتلال "أعطيناكم شهرًا كاملاً، بدنا تسلموا براء" وذكرها بما حدث ببيت الدبعي محاولاً الضغط واللعب على وتر العاطفة: "شفتي اللي صار بدار جيرانكم؛ فجرناه، والدور الجاي عليكم"، يعلق والده على تهديدات الاحتلال: "منذ الاتصال السابق، كنا لا ننام ونتوقع اقتحام البيت في أي لحظة، واستشهاد براء".

في أحد الاشتباكات، خلال الفترة الماضية، تناقل الشباب خبر استشهاد براء الذي وصل والده، تلك اللحظة لا زالت عالقة بذاكرته: "نزلت من سيارتي أبحث عنه، وحمدت الله أنه كان حيًا، وها هو اليوم يرحل شهيدًا".

لم يكن براء يترك ساحة الاشتباكات خالية دون أن يسجل حضوره بالرصاص، في كل مرة تقتحم فيها قوات الاحتلال المخيم، رفض تسليم نفسه والانصياع لتهديدات الاحتلال، وهو الذي حمل أمانة الثأر لشهداء مخيم جنين، في هذا المخيم تكثر القصص والحكايات عن دور براء، لكن والده يقول إن "الأيام وحدها ستكون كفيلة في البوح عن بطولاتِ ابنه التي لم يكن يعلم بها أحد في حياته، ولكن تهديدات الاحتلال المتواصلة أشعرتنا بعظمها (..) الحمد لله أفتخر به".

في وصيته قال براء "أوصيكم، ألا تتخاذلوا وتنسوا الدفاع عن دين الحق الإسلام.. الدين الأحق أن يُنصر.. وأن لا تنسوا دماء الشهداء الأكرم منا جميعًا، وألا تنسوا حقنا في هذه الأرض المباركة.. كما أوصيكم بعدم إطلاق النار في عرسي، وعدم إطلاق النار بالهواء في أي مناسبه تذكر".

وخصَّ براء والديه بحروفه: "أهدي الختام إلى أعز الناس على قلبي ألا وهي أمـي وأبي وإلى أخي وإلى اخواتي.. ارضوا عني ولا تزعلوا عليّ.. أنا حي أرزق عند الله، وموتي مشرف لكم وللإسلام.. لا تنسوني من دعائكم ومن الصدقات".

وترك كلمات لرفاقه حثهم فيها بالسير على درب المقاومة، "أوقعوهم بالكمائن واحذروا من كمائنهم، وعلى درب الشهداء سائرون".

3 أفراح بعائلة "صلاح"

كانت عائلة صلاح تستعد لقرع طبول ثلاثة أفراح متتالية، الأولى بتفوق ابنتهم "تالا" بالثانوية العامة من الفرع العلمي والتي تعقد العائلة آمالاً كبيرةً عليها بحصولها على معدل 96% أو أكثر، والثانية كانت تبحث عن عروس لنجلها يوسف وإعلان عقد قرانه، والثالثة استقبال نجلها الأسير أسامة الذي يقبع في "الاعتقال الإداري".

الواحدة والنصف فجر السبت، قطعت أصوات رصاصات قوات الاحتلال وقنابل الغاز التي بدأت رائحتها تنفد إلى نوافذ منازل أهالي المخيم جلسة يوسف مع عائلته، فانسحب منها بلمح البصر ونزل لميدان المواجهة والتصدي كما في كل مرة يجتاح فيها جنود الاحتلال مخيم جنين.

القلق المنبعث من قلبي والديه كان يمنعهما من إغلاق عينيهما والنوم، خاصة مع تعالي صوت الرصاص، أمسك والده هاتفه ووضعه أمام فمه وهو يقول في قرارة نفسه: - "يارب يرد" لكن لم يرد يوسف!، حاول مرة أخرى، صوت ابنه ينبعث من السماعة الخارجية فقال له والده راجيًا: "روح أمك تعبانة عليك" تدخل أمه الحديث بصوتٍ يغلي: "ما نسيناش أخوك سعد يما روح"، فطمأنها "هسا جاي".

الضوء المنبعث من شاشة الهاتف مع توارد الأخبار عن استمرار المواجهة والاقتحام عبر مجموعات الأخبار، ظلَّ يمنع والده المقعد إثر إصابة تعرض لها في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة) من النوم، فكان يحوم بكرسيه المتحرك تجاه نوافذ المنزل هو والدته ينظرون من النافذة يتحسسون قدوم يوسف، فحاول مرة أخرى الاتصال بنجله، ولكن لا مجيب!، ثم اتصل وكان الهاتف مغلقا، تزامن معه اتصال صديق له يطلب المتصل منه الاتصال بنجله.

توهج ضوء شاشة هاتفه المحمول بصورة يوسف التي أطلت عليه، يعلنون استشهاده برفقة براء لحلوح، وليث أبو سرور، بعد قيام قوة إسرائيلية خاصة بالتسلل إلى الحي الشرقي في جنين وإطلاقها النار باتجاه مركبة يستقلها الشبان الثلاثة، ما أدى إلى استشهادهم على الفور.

"نفدت ذخيرة ابني ورفاقه فانتقلوا من منطقة البيادر إلى الحي الشرقي (يطلق عليه اسم حارة الدبوس) وهناك كانت القوات الإسرائيلية قد نصبت كمينا لهم وحاصرتهم من جميع الاتجاهات، وقامت بتصفيتهم واغتيالهم (..) يوسف كان دائمًا يخرج مع شباب المخيم ومنذ طفولته يتصدى لقوات الاحتلال وختم آخر لحظاته وهو يقاوم" يتحدث عن آخر اللحظات لـ "شبكة قدس".

أفاق يوسف على طفولةٍ رأى فيها والده مقعدًا عن الحركة بسبب الاحتلال، واقتحامات متتالية للاحتلال لمنزله واعتقال أشقائه، فزار السجن وهو فتى لم يتجاوز ستة عشر عامًا وسجن لمدة عامين ونصف، وخلال أسره استشهد شقيقه سعد، وكانت بمثابة صدمة له في السجن.

اعتقل يوسف مرة أخرى لمدة ثمانية عشر شهرًا، ثم اعتقل إداريًا لمدة ثلاثة أشهر ومثلها مرةً أخرى.

رغم مصابها الجلل وهي تعيش الفقد الثاني تعتبر والدته "المقاومة شرفا لأنها تدافع عن فلسطين والأقصى، حتى آخر اللحظات جلس معي قبل خروجه لمدة عشر دقاق وعند الحديث عن الاشتباكات قالي لي إنه، سيخرج عشر دقائق لكنه لم يرجع".

اتقن يوسف مهنة الدهان، وكان في كل مرة يدخر مالاً إزاء كل عمل يقوم به، ويشتري فيه رصاصا، إضافة إلى أنه اشترى سيارة حديثة وكان يؤجرها ومن ثمنها يشتري رصاصات يقارع فيها الاحتلال في كل مرة يدخلون فيها مخيم جنين.

شقيقته تالا التي امتحنت في الثانوية العامة وكانت تحمل على عاتقها إدخال الفرحة لقلوب عائلتها أصيبت بصدمة بعد هذا الانكسار، وكتبت على "فيسبوك تشارك الجميع همها: "أصبحت أخت شهيدين، وابنة جريح، وشقيقة أسير" ورغم أن صوتها وصل وزارة التربية والتعليم التي قررت تأجيل امتحانها في وقت لاحق يناسبها، إلا أنها تصر على تقديمه انتصارًا لروح شقيقها.

"نحن الشعب الفلسطيني معرضون لهذه المعاناة، وابنتي قررت استكمال الامتحانات حتى تنال من كرامات شقيقيها الشهيدين" تختم والدته، التي تستعد لاستقبال ابنها الأسير أسامة بعد أحد عشر يومًا، لعل وجوده يخفف عنها من رحيل شقيقه سعد ويوسف.

أطفال "ليث" يبحثون عنه!

بينما كان يتصفح قصي أبو سرور هاتفه المحمول، أثناء عمله المسائي كحارس أمن بشركة خاصة، أطلت صورة شقيقه "ليث" على إحدى المجموعات الإخبارية، معلنةً استشهاده، توقف دقيقة بينه وبين نفسه محاولاً استيعاب الصدمة والموقف، وحتى الآن لم يجد إجابة لعلاقة شقيقه ببراء ويوسف، ولماذا استشهد معهم!

"بسبب وضعنا الخاص، توفي والدي ونحن أطفال، وأمي مريضة بالسرطان، حاولنا طيلة حياتنا الابتعاد عن كل ما يتعلق بالسياسة، لذلك تفاجأت باستشهاد أخي كما تفاجأ كل الناس، فلم أذكر أني رأيته ألقى حجرًا على قوات الاحتلال، خاصة أنه كان يعمل في مطعم لمدة ثمان ساعاتٍ يوميًا ولديه أسرة يعليها" لا زالت الصدمة تسيطر على شقيقه قصي حتى خلال حديثه لـ "شبكة قدس".

أفاق ليث وقصي على فقد والدهم، ثم على استشهاد شقيقهم علاء عام 2007، وتبعها استشهاد اثنين من أبناء عمهم، ليكون ليث هو الشهيد الرابع في عائلة أبو سرور التي قدمت لفلسطين خيرة أبنائها.

بقي الجانب المقاوم غامضًا في حياة شقيقه قصي، الذي يجهله بكل تفاصيله، ولم يكن ليث مجرد شقيق وحسب وإنما تعدت العلاقة بينهما حدود الأخوة، وهما اللذان أفاقا على جرحٍ واحد، وجدا أنفسهما يكافحان الفقر لإخراج العائلة من براثنه، يعرض جانبًا من هذا الواقع: "كان يعمل ليث في مطعم، وكنت أعمل في شركة خاصة لإعالة أسرتنا وتوفير دواء لأمي فوالدي توفي ونحن أطفال".

لدى ليث ثلاثة أطفال، وهم صلاح (4 سنوات) وجوان (3 سنوات) والرضيع نور (8 شهور)، لم يعرف الأطفال أن والدهم كان محمولاً على الاكتاف حينما جاءت جنازته للمنزل، انشغل أكبرهم في السؤال: "وين بابا؟"، وإن كان هؤلاء الأطفال سيكبران على الفقد الذي كبر عليه والده، فإنهما سيفتخرون بنيله الشهادة.

"كانت حياته صعبة من كل النواحي، إيمانه قوي، نفتخر به، وحتى الآن لا نصدق أنه استشهد" بها يختم قصي حديثه.

#شهداء_جنين #ليث_أبو_سرور #يوسف_صلاح #أقمار_جنين #براء_لحلوح