استعرضت في مقالي السابق، الذي أثار اهتمامًا بالغًا، السيناريوهات المختلفة للخلافة والخليفة والخلفاء. وطبعًا، لا يعكس استعراضها تبنيها، وإنما قدمت توقعاتي للسيناريوهات المختلفة بغض النظر عن رغباتي، أو وجهة نظري الشخصية، انطلاقًا من المنهج الذي أؤمن به وأسير عليه، وهو رؤية الواقع كما هو، ودراسة مجرياته، وما يمكن أن يصل إليه، بغض النظر عن الرغبات والتمنيات.
ضمن هذا المنهج يتفاعل الفكر والإرادة مع الواقع، ويعمل على تغييره من دون أوهام ولا رهانات خاسرة ولا قفزات مغامرة، ولا خضوع واستسلام لحقائقه العنيدة، فما أسوأ من الاستسلام للواقع إلا التفكير بالتمني وإسقاط الرغبات عليه، فهذا يوفر فتاتًا، وذاك يصبّر دعاتها قليلًا، ولكنه يسبب لهم الندم كثيرًا بعدما وعندما يصطدم بصخرة الواقع العنيدة، والفتات لا تسمن ولا تغني من جوع، والتفكير بالتمني ليس سوى أوهام.
إن خلافة الرئيس غير مطروحة عمليًا حتى الآن، وستكون مطروحة فقط في حال حدوث شغور في منصب الرئيس، وهذا مرتبط إما بوفاة الرئيس أو مرضه مرضًا شديدًا لا يمكّنه من العمل، وكلا الأمرين في علم الله، أو قراره بالاعتزال والتنحي، وهذا أمر لا يوجد ما يوحي بأنه حاصل على الأقل على المدى المباشر.
لذا، فإن عدم شغور منصب الرئيس يجعل مسألة الخلافة مؤجلة، لكن لأن الأعمار بيد الله، ولكل نفس أجلها، وتقدم عمر الرئيس، والمتاعب الصحية التي يواجهها، وبعد حل المجلس التشريعي وعدم وجود آلية متفق عليها لعملية نقل السلطة في الفترة الانتقالية، واصطدام برنامجه بالحائط من دون استعداد لتغييره، بل هو يهدد بتغييره منذ أكثر من عشر سنوات ولا يفعل، كما أن سقفه السلام الاقتصادي والتعاون الأمني، وتعمق تبعية الاقتصاد الفلسطيني بلا أي أفق سياسي ... إلخ؛ ما يطرح ضرورة التحضير للخلافة والخليفة، خصوصًا أن تجويف المؤسسات، وتآكل شرعيتها، وتفاقم الانقسام، والصراع والتنافس على الخلافة، وعدم وجود شخص أو أشخاص محل توافق له/لهم وزن محلي وإقليمي ودولي كافٍ يمكنه/هم من حسم أمر الخلافة من دون تهديد مصير السلطة والنظام السياسي بمختلف مكوناته بالانهيار.
القضية الجوهرية التي لا بد أن توضع على طاولة البحث الوطني قبل البحث في الخلافة هي: ماذا يحتاج الشعب الفلسطيني، وماذا يريد، وما الذي يستطيع تحقيقه؟
بالتأكيد، الشعب ليس بحاجة إلى الاستمرار في المسار الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه، أو إعادة إنتاجه بأشكال جديدة، وإنما بحاجة إلى مسار جديد، وبالتالي الخليفة أو الخلفاء لا بد أن يكونوا من فرسان هذا المسار الجديد الذي يجب تحديد معالمه بوضوح، فإذا كان المطروح الممكن تسوية فيمكن أن يتقدم شخصٌ معتدلٌ للخلافة، وأما إذا كانت المجابهة سيدة الموقف فالحاجة إلى شخصٍ قياديٍ مقاوم.
ومعرفة ما نريد لا تعني أننا قادرون على تحقيق ما نريده فورًا، بل السعي لتوفير متطلبات تحقيقه مهما طال الزمن وغلت التضحيات، فالمسألة ليست مجرد توفر إرادة ورغبة، وإنما وثيقة الارتباط بالواقع، وحقائقه العنيدة، والعوامل الثابتة والمتغيرة التي تؤثر فيه، وهذا يعني أن عملية التغيير بحاجة إلى وقت وأدوات وظرف مناسب، وتغيير موازين القوى، وتوفر بيئة إقليمية ودولية مناسبة؛ أي إنها عملية تاريخية، وليست قرارًا يُتخذ ويُنفذ فورًا، وكأنه العصا السحرية، فمثل هذه العصا لا توجد في الحياة الواقعية، وإنما في الأحلام
ما أود التأكيد عليه أن ما وصلنا إليه لا يرجع إلى العامل الذاتي فقط، وارتكاب الأخطاء والخطايا، وانتشار الفساد وسوء الحكم وأصحاب مصالح الانقسام، وإنما يعود أيضًا إلى تأثير عوامل موضوعية لا يمكن القفز عنها بخفة.
وبسبب تعقيدات الوضع الفلسطيني، يذهب البعض إلى حد الجزم بأن الرئيس محمود عباس هو آخر رئيس للسلطة، وأن مفاتيح الحكم ستعود إلى صاحب الحكم والسيادة، وهو الاحتلال، ويذهب البعض الآخر إلى الجزم بأن الرئيس القادم إما رئيس لروابط المدن والقرى، وإما زعيم تحرر وطني.
في كل الأحوال، لا أنصح أحدًا بتبسيط الأمر وكأن حله مجرد قرار إرادوي بعيدًا عن الحسابات المعقدة والتدخلات الثقيلة من أطراف متعددة، وعلى رأسها الاحتلال، اللاعب الرئيسي في كل المسائل، بما فيها الخلافة، فهو لن ينتظر جانبًا إلى حين حسم الفلسطينيين لهذا الأمر، بل سيتدخل بها دائمًا حتى لا تنتهي بما لا يناسب مصالحه وأهدافه، ولا يظن أحد أن عدم بروز الدور الإسرائيلي علنًا لصالح هذا الخليفة أو ذاك حسن أخلاق إسرائيلي، ولكن الاحتلال لا يريد أن يظهر دعمه العلني لشخص أو أشخاص، كون هذا كفيلًا بحرقهم وإبعادهم عن الخلافة، فليس من السهل أبدًا أن يأتي رئيس الفلسطينيين على ظهر دبابة إسرائيلية.
لست من أنصار نظرية المؤامرة التي ترى التاريخ فصولًا معدّة مسبقًا، وأن القادة والرؤساء والفاعلين في التاريخ ممثلون يؤدّون أدوارًا كُلفوا بها، وليس بمقدورهم الخروج منها، لو كان الأمر كذلك لما حدثت تغييرات وثورات وإبداعات عبر التاريخ، ولما هبطت الإمبراطوريات التي قادت العالم لتحل محلها إمبراطوريات جديدة. نعم، هناك مؤامرات في التاريخ، ولكن التاريخ كله ليس عبارة عن مؤامرة مستمرة، فهناك دور حاسم للشعوب، ودور مهم للأفراد الذين اختياراتهم وإراداتهم هي قاطرة التاريخ، وجعلت التغيير سنة الحياة والثابت الوحيد فيها.
لقد وصلنا إلى وضع بات فيه الأفق السياسي مغلقًا، ووصلت الرؤى والخيارات والإستراتيجيات المعتمدة إلى طريق مسدود، سواء إستراتيجية المفاوضات والتسوية، أو إستراتيجية المقاومة، كما أن إستراتيجية دخول الكنيست وصلت كذلك إلى الاختيار بين التصويت لصالح حكومة يرأسها غانتس أو بينت أو نتنياهو، وانتهت إلى الدخول في أسوأ حكومة في تاريخ إسرائيل بحثًا عن تحقيق إنجازات، ولو عن طريق الاندماج الكامل في دولة لا تمكن غير اليهود من الاندماج فيها ولم تحقق مبدأ المساواة.
أما شعبنا في الشتات فضائع أيضًا، وهو من دون قيادة ولا مؤسسة تمثله، وما بين التوطين والهجرة الثانية والثالثة، والتناقض ما بين الحفاظ على الهوية وواجبات الجنسية.
إن عدم تحقيق الأهداف الرئيسية للشعب، وهي حق العودة والتعويض للاجئين، والاستقلال الفلسطيني للدولة الفلسطينية، يضاف إلى ذلك أن الدولة الواحدة غير الصهيونية الديمقراطية أو ثنائية القومية أو الإسلامية ليست على مرمى حجر، وأبعد عن التحقيق من الدولة الفلسطينية؛ ما يؤكد سقوط نظريات الحلول بكل أنواعها للقضية، ما يثبت خطأ التعامل وكأن الحلول جاهزة وتنتظر من يختارها ويشرع في تطبيقها، وبالتالي يجب التصرف على أساس أن المرحلة القديمة استنفدت أغراضها، وأننا وصلنا أو اقتربنا بشدة من نقطة تحول تاريخية للنهوض بالوضع أو الهبوط به إلى الحضيض.
وعلى الرغم من كل عوامل النهوض والإنجازات التي يحققها الشعب الفلسطيني، فإن غياب قيادة تحمل رؤية وتعتمد إستراتيجية مبادرة قادرة على الاستثمار يهدد بضياع الإنجازات التي حققتها والهبات والموجات الانتفاضية والمسلحة.
وعلى الرغم من اتجاه سير الأحداث نحو الأسوأ، فلا يجب اليأس والرهان على تحقق المعجزات والتعلق بالغيبيات والاستسلام، أو المغامرة، أو الاكتفاء بالانتظار وتسجيل موقف للتاريخ لتبرئة النفس وعدم المساهمة والمبادرة إلى التغيير، بل لا بد من البحث الجاد والواقعي عن طريق واقعي ثوري يمكن الشعب الفلسطيني بمختلف تجمعاته وأفراده وأماكن تواجده من التفكير في كيفية تجاوز هذا الواقع السيئ، وتغييره بشكل جوهري، بما يحدث نقطة التحوّل المطلوبة وطنيًا وشعبيًا.
حتى يمكن ذلك، لا بد من تحديد أين تقف القضية الفلسطينية، وما التحديات والمخاطر التي تهددها، والفرص التي تنتظرها، وإلى أين نريد أن نصل، وكيف نحقق ما نريد، وإدراك أن التغيير عملية تاريخية، وليست عملًا يمكن إنجازه بضربة واحدة، وهو عمل وطني جماعي منظم، يبدأ ببلورة الرؤية الشاملة، وتحديد الأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة، وأشكال العمل والنضال الرئيسية، والتحالفات، والمراحل، والشروع في وضع السياسات وخطط العمل، وتوفير الاحتياجات والأدوات اللازمة للتقدم على طريق تحقيق الأهداف، على أساس تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة وليس الممكن فقط، وبأسرع وقت وأقل التضحيات وأفضل شكل، من دون التعامل معه بوصفه نهاية المطاف، وإنما باعتباره مرحلة وخطوة على الطريق الطويل.
الخلاصة: من الصعب فرض رئيس على الشعب الفلسطيني من دون انتخابات، ولا وفاق وطني، وإذا سلمنا جدلًا أن هذا يمكن أن يحدث فلن يعمر طويلًا، كونه لن يحظى بالدعم والقبول والثقة، وإذا كان معزولًا ومنبوذًا فلن يكون قادرًا على تنفيذ المهمة الموكلة إليه ممن فرضوه.
لا نقول ما سبق من قبيل التمنيات، وإنما لأن الشعب الفلسطيني لا يزال حيويًا وصامدًا، فلا زعيم ولا فصيل واحدًا يحكمه، وإنما يشهد تعددية شكلت دومًا له حصانة ومناعة ساهمت في إبقاء قضيته حية، كما أن المشروع الصهيوني يدفعه دفعًا للمقاومة والتوحد كونه مشروعًا له أهداف جذرية توسعية، ولا يقبل التسويات والحلول الوسط، على الرغم من مضي 74 عامًا على تأسيس إسرائيل، وفشله في استكمال تحقيق أهدافه.
فلم يحقق المشروع الصهيوني شعاره حول عدم وجود شعب فلسطيني، ولم يدفع هذا الشعب إلى الاعتراف بشرعية وجود إسرائيل، أو التسليم بحتمية استمرار وجودها، وأن لا قبل له بمقاومتها، ولم يجذب هذا المشروع كل أو معظم اليهود في العالم، فأكثر من نصف اليهود ما زالوا لا يفكرون بالهجرة إلى إسرائيل، فضلًا عن وجود مليون إسرائيلي يعيشون خارج إسرائيل، وأقسام منهم تتزايد هاجرت ولا تفكر بالعودة إلى إسرائيل.
كما لم ينجح المشروع في طرد كل أو معظم السكان الفلسطينيين لتحقيق حلم إقامة دولة يهودية نقية، فلا يزال نصف الشعب الفلسطيني صامدًا على أرض وطنه، ونصفه الآخر متمسك بقضيته وعدده يساوي عدد اليهود.
ولكن ما سبق ليس نهاية المطاف، وليس مضمونًا استمراره، فلا يزال المشروع الصهيوني مفتوحًا ولم يغلق، ولا تزال أحلام إقامة الدولة اليهودية النقية تراود الصهاينة، لذلك يضعون الخطط ويستعدون لمصادرة الأرض واستعمارها، وطرد وتهجير سكانها، وهذا يظهر في صفقة القرن التي تضمنت ضم سكان المثلث إلى الدولة الفلسطينية، وفي استمرار الضم الزاحف، ووجود خطط لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، أو إلى بلدان ثالثة، وحل المشكلة الفلسطينية في الأردن عبر إحياء الخيار الأردني، أو على حسابه عبر "الوطن البديل"، وقد يشكل اندلاع حرب إقليمية (مع أنه مستبعد حتى الآن) فرصة لإيقاع نكبة جديدة بالفلسطينيين، خصوصًا إذا وفر القادة الفلسطينيين بانقسامهم وأخطائهم ومغامراتهم وتخاذلهم الفرصة لنجاح هذه المخططات.
يكمن الحل في إنجاز الوفاق الوطني، والشراكة، وإنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة على برنامج القواسم المشتركة، وتغيير السلطة، وإعادة بناء المنظمة، وتشكيل هيئة انتقالية مؤقتة تتولى القيام بهذه المهمة إلى حين إجراء الانتخابات العامة في السلطة والمنظمة حيثما أمكن ذلك، وبما يمكّن من مواجهة المخاطر الجسيمة التي تهدد الفلسطينيين جميعًا ولا تستثني أحدًا.
نعم، هذه عملية ستستغرق وقتًا، ولكن يمكن البدء بها عبر إنجاز ما يمكن إنجازه، من خلال التركيز على العمل من أسفل إلى أعلى، وتقديم نماذج وحدوية ميدانية ونضالية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، على طريق تحقيق الهدف العظيم، وإعادة بناء المؤسسة الوطنية الجامعة استنادًا إلى الحقائق والمستجدات الجديدة، وعلى رأسها إدراك تغيّر الظروف، فما كان صالحًا في الستينيات من القرن الماضي لا يصلح في القرن الحادي والعشرين، لا سيما أن خريطة القوى مختلفة، وهناك لاعبون جددٌ، والأهم الاستفادة من دروس وعبر التجارب السابقة، وعدم تكرار الأخطاء نفسها، وتصوّر إمكانية تحقيق نتائج مغايرة.