وكأن صراع التاريخ الحضاري والديني يتكثف في مدينة الله، الإسرائيلي يرسم ويخطط وينفذ مستغلاً كل ثغرة وكل فراغ وكل انشغال دولي وإقليمي لاستكمال السيطرة على المدينة التي يصر بعكس إرادة الكون على أنها يهودية موحدة، ويحاول أن يعزز هذا الإصرار ببرامج لا تتوقف تتكامل فيها جميع مؤسساته فتعمل بلا توقف لجعلها يهودية نقية من أي إرث عربي أو إسلامي، محاولاً مسح تاريخها وذاكرتها المحمولة في صدور أبنائها والمكتوبة على حجارتها القديمة.
منذ احتلال الجزء الشرقي منها وضعت الحكومة الإسرائيلية آنذاك خطة «لتوحيد» المدينة.
وفي العام 2000 وضعت مخططاً للتنفيذ خلال عشرين عاماً أطلقت عليه «القدس 2020»، والآن يجري العمل على مخطط «2030» بل وتخطط لعقود قادمة في برنامج معلن للعام 2050.
وكل هذا يسير تحت نظر الجميع من مجتمع دولي يصاب بسكتة الكلام حين يتعلق الأمر بإسرائيل، وأمام العرب الذين يبدون أن لا حول لهم ولا قوة فاكتفوا بالخطاب والبيان وكفى الله العرب شر القتال.
وأبعد من ذلك فمنذ احتلال المدينة قرر العرب إنشاء صندوق خاص بالقدس ظل فارغاً، وظلت المدينة المقدسة وحدها تواجه قدرها وتتحداه بصدرها العاري وصمود أبنائها الذين يبرزون في كل معركة قوة مدهشة في الدفاع عن مدينتهم.
على الجانب الفلسطيني لا يبدو الأمر أبعد كثيراً من السياسات العربية، وفيما تعمل إسرائيل ببرامج منظمة جداً وموازنات هائلة يدير الفلسطينيون سياسة عشوائية مناسباتية ارتباطاً بالأحداث في جعبتها الشعار والخطابة وليس الفعل على الأرض.
وما بين فعل الإسرائيلي وخطاب الفلسطيني حدثت تغيرات كثيرة لم تكن في صالح المدينة وسكانها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها الذي أعدت له إسرائيل جيداً بموازناتها الهائلة، وهذا في ظل استثمار الدول العربية الثرية في كل بقاع الكون ولكنها تتصرف كدول فقيرة حين يتعلق الأمر بالقدس، فيما تبدو دول فقيرة حقاً أكثر سخاء تحجم الدول العربية الثرية عن دعم القدس لأن الأمر يتعلق بمصادمة إسرائيل في أكثر الأماكن حساسية وهذا يحتاج إلى جرأة سياسية.
لم يبقَ للقدس سوى أهلها، ساكنيها الذين يقفون رأس حربتها في الدفاع عن مصالحهم الشخصية المعيشية اليومية في ظل استهداف مبرمج لكل شيء يتعلق بهم، وهم محاطون بشعبهم الذي يفتقر لخطة منظمة يتحرك عاطفياً حين تشتد معارك القدس في ظل غياب سياسة فلسطينية منظمة أو داعمة بالشكل المطلوب. وما بين تصعيد ومعركة يكون الإسرائيلي قد نفذ عديداً من مشاريع التهويد.
في القدس يتعرض السكان لتطهير ممنهج. فبعد أن تمكنت إسرائيل من تحقيق سيطرة جغرافية خلال العقود الماضية وأحاطت المدينة بالمستوطنات وغيرت أسماء الشوارع ها هي تنتقل للمرحلة الثانية والأخيرة وهي السيطرة الديمغرافية التي تعني تطهير المدينة من سكانها الفلسطينيين وتغيير ملامح وهوية القدس.
وخطورة الأمر أنه يتم بشكل صامت من خلال إجراءات عديدة هدفها جعل حياة الفلسطيني مستحيلة، إذ يعمل جهاز الضرائب الإسرائيلي كذراع تنفيذية لمخططات الحكومة حيث تفرض إسرائيل نوعين من الضريبة على أصحاب البيوت والمحال التجارية.
وفي ظل المقاطعة الاقتصادية تصل تلك المحال لمرحلة الإفلاس ما أدى إلى إغلاق 800 محل تجاري للفلسطينيين في المدينة.
وبالمقابل تنفق إسرائيل عشرة ملايين دولار يومياً على برامج التهويد أي مليار دولار كل مائة يوم.
ولنا أن نتخيل ما الذي يمكن أن تغيره تلك الأموال وحين تستعمل ضد فئة فقيرة ذات امتداد عشوائي في السياسة لا يملك أي برنامج للقدس ولا مؤسسات في القدس ولا موازنات للقدس، ولا شيء سوى الخطاب والشعار الحماسي الذي لا يصنع سياسة ولا يحمي المدينة.
الأسبوع الماضي عقدت مؤسسة وقفية القدس وجامعة القدس في إسطنبول مؤتمراً لدعم وتعزيز صمود المدينة وهي التي لديها قسم متخصص من الباحثين، الذي يتابع التغيرات التي تحدث فيها وكيف تعمل إسرائيل وكيف يجب أن يعمل الفلسطينيون والعرب لوقف تهديد المدينة المهددة هي وسكانها، فإسرائيل تعمل كخلية نحل وتنتقل من مرحلة إلى أخرى بعد أن تنفذ كل مرحلة بنجاح، وقد أطلق المؤتمر صيحته الدائمة التي تكررت منذ ثمانية وعشرين مؤتمراً بضرورة الإسراع في دعم المدينة التي تنهش يومياً وعدم تركها وذلك بإنشاء تحالف من الجهات المانحة العربية والإسلامية والدولية.
هناك العديد من البرامج التي يمكن تنفيذها في المدينة لو توفر الدعم.
فإسرائيل تجعل الحياة شديدة الصعوبة من الناحية الاقتصادية بالضرائب والمخالفات وعدم السماح بترميم البيوت ليفكر سكان القدس بعبء الإنجاب بسبب الظروف الاقتصادية وبالتالي ضمور المجتمع الفلسطيني وانحساره بإرادته، وهذا واحد من الأساليب وأهداف الإفقار المنظم وبالمقابل دعم هائل للعائلات اليهودية كثيرة الأولاد وتشجيع الأسر على الإنجاب أي كسر التوازن لصالح اليهود ودفع العرب باتجاه ترانسفير طوعي.
كان يمكن دعم التعليم في القدس، المدرسين، الطلاب وتوفير الملابس المدرسية، ورعاية المبدعين والفنانين والأندية الرياضية وتسويق منتجات القدس من التحف وغيرها في الضفة وغزة ومدن الداخل بل والعالم العربي والإسلامي وإنشاء مؤسسات وجمعيات أهلية وتوفير منح طلابية في الجامعات الفلسطينية وحتى الجامعات العربية.
لا يكفي للقدس هبات موسمية ولا انفعالات عابرة تستدعيها أحداث متباعدة، فالمدينة تحت الاستهداف اليومي الذي لا يتوقف بل هي بحاجة إلى برامج وسياسات منظمة ودعم يجب أن يتم توفيره حتى لو من اللحم الحي كما كان يفعل ياسر عرفات الذي كان يتكئ على القائد فيصل الحسيني وبيت الشرق موفراً ما يلزم رغم الفقر، يمكن عمل شيء بالممكن ولكن أن تترك المدينة على نمط للبيت رب يحميه فهذا قمة العجز الذي لن يتسامح معه التاريخ مع شهود المرحلة من عرب ومسلمين وأكثر مع الفلسطينيين.