أكثر من شهر مضى على جريمة اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة، دون أن تتحرك الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها القضائية نحو إجراء تحقيق مهني، ما يتكرّر كسياسة عامة إزاء كل الجرائم، التي ترتكبها قوات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني وحقوقه.
ومثلها، أيضاً، تكتفي الإدارة الأميركية بمعاودة التذكير بطلبها إجراء تحقيق تتعاون فيه إسرائيل مع السلطة، وربما بمشاركة أميركية لكنها في الوقت ذاته، لا تمارس أي ضغط على حكومة الاحتلال، وتعلن رفضها إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية.
ثمّة وقاحة أميركية حين يتعلق الأمر بالجرائم التي يرتكبها الاحتلال، حيث تخصص تصريحات المسؤولين على أن الملفّ الفلسطيني تحديداً، لا يصلح لدفعه نحو الجنائية الدولية ما يشكل إعلاناً صريحاً على انحياز الولايات المتحدة الأعمى لصالح الاحتلال، ويُعمّق سياسة الكيل بمكيالين.
في مجلس حقوق الإنسان تعود الولايات المتحدة لرفض التحقيقات الأولية التي أجرتها لجنة تحقيق، وتتهم المجلس بمعاداته لإسرائيل وانحيازه لصالح الفلسطينيين، ما دعا السفير الفلسطيني إبراهيم خريشة لتقديم اقتراح بتجميد عضوية الولايات المتحدة في المجلس.
السلطة الفلسطينية أجرت تحقيقاتها، وأرسلت الملف إلى الجنائية الدولية، لكن المدّعي العام للمحكمة، كريم خان، لا يحرّك ساكناً، والأرجح أنه لن يحرّك ساكناً بسبب تسييس المحكمة، والضغوط التي تواجهها من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل.
ليست هذه المرّة الأولى التي يتعرض لها قضاة المحكمة والمدّعي العام، لضغوط وتهديدات، من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل حين يتعلّق الأمر بفلسطين، وجرائم الاحتلال.
قد يجد المدّعي العام للمحكمة مبرّراً لعدم النظر في ملف التحقيق الذي قدمته السلطة، بدعوى أن إسرائيل لديها ولاية قضائية، تسبق آليات عمل المحكمة، أو لأن تحقيقات السلطة قد يُنظر إليها على أنها مُنحازة وأُحادية الجانب طالما أن الأمر يتعلّق بشهيدة فلسطين.
في الواقع فإن إسرائيل لم تُفعّل الولاية القضائية في هذا الملف، ومن غير المرجّح أن تبادر لتفعيله، مع العلم أن القضاء في إسرائيل أثبت كل الوقت أنه جزء أساسي ومكمل للسياسات العنصرية الاحتلالية.
قد تتذرّع إسرائيل، بأنها لا تستطيع القيام بتحقيق ذي مصداقية طالما ترفض السلطة الفلسطينية التعاون فيما تحتفظ ببعض الأدلة المهمة، مثل الطلقة التي استقرت في رأس شيرين وأدّت إلى استشهادها، غير أن هذه الذريعة والمزيد من الذرائع لا يمكن أن تنظّف السجّل الإجرامي للقضاء الإسرائيلي ولدولة الاحتلال عموماً.
ملفّ جريمة اغتيال شيرين بالنسبة للشعب الفلسطيني، ومسؤولية الاحتلال، أمر لا يخضع للشك، فلطالما تستّرت قوات الاحتلال على جرائمها، ومن أبرزها جريمة اغتيال الزعيم ياسر عرفات، ولا يفيد الاحتلال الإنكار، طالما أن الشعب الفلسطيني بكلّيته يعرف الفاعل والمجرم.
مرور أكثر من شهر على جريمة اغتيال أبو عاقلة، وامتناع الاحتلال عن التحقيق في تلك الجريمة، والجريمة المتصلة التي ارتكبتها قوات الشرطة أثناء تشييع جثمانها، ما تكرّر خلال تشييع جثمان الشهيد وليد الشريف. هذه الجرائم، التي هزّت الضمير العالمي، لا تزال مطروحة بقوة في مختلف المحافل الدولية والإقليمية.
لا تسقط هذه الجرائم بالتقادم، وإن كانت منصّات العدالة الدولية، ومنها المحكمة الجنائية، تمتنع بالإكراه، والردع الأميركي عن القيام بدورها وإنصاف الضحايا، فإن ردود الفعل السياسية والإعلامية والاجتماعية لا تزال نشطة، في تشكيل رأيٍ عام دولي بما في ذلك أميركي إزاء هوية الاحتلال وسياساته التي تنتهك أبسط القيم والقوانين الدولية.
تطالب الإدارة الأميركية بتحقيق تتعاون فيه السلطة مع إسرائيل ولكنها ترفض مطالبات عشرات المؤسسات الحقوقية الدولية والأميركية منها التي تدعو إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة ومحايدة.
لا سبيل إذاً، لتحقيق موثوق، طالما لا يمكن الاعتماد على تحقيقات السلطة، وطالما ترفض إسرائيل، وحتى لو باشرت بالتحقيق فإن تحقيقاتها غير موثوقة، وطالما ترفض الولايات المتحدة التحقيق الدولي.
ثلاث مؤسسات إعلامية أميركية كبرى، ليست معروفة بانحيازها لفلسطين والفلسطينيين، ولا هي معروفة بسياسة انتقادية لإسرائيل، بل إنها جزء من السياسة الأميركية العامة، وربما تخضع لنفوذ اللوبي الصهيوني الأميركي. بعد التحقيق الذي أجرته وكالة «الأسوشيتدبرس»، وشبكة «سي. إن. إن.»، ها هي جريدة «واشنطن بوست» تجري تحقيقاتها الخاصة، وكل هذه المؤسسات الثلاث، خلصت إلى النتائج ذاتها التي تؤشر بأصابع الاتهام على الجيش الإسرائيلي، غير أن ذلك، لم يؤثر في الموقف الأميركي الرسمي، ولم يحرك الكيان العنصري الفاشي.
لستُ متشائماً إزاء ضرورة مواصلة الكفاح، مع الجنائية الدولية أو غيرها من منصّات العدالة الدولية، ولا أرى أن الطريق مغلق أمام مؤسسات حقوقية أممية، أو مؤسسات وطنية في دول الغرب الرأسمالي بما في ذلك أميركا، لأن تبادر لإجراء تحقيقات ستعمل إسرائيل على إعاقتها.
بإمكان إسرائيل أن تواصل تجاهلها واستهتارها، لكل الدعوات والحراكات التي تدينها، وترى أنها دولة فصلٍ عنصري، ودولة مارقة على القانون الدولي، ولكن الوقت سيأتي حين تجد نفسها أمام مجتمعات ورأي عام دولي يتشكّل مع استمرار الصراع، سيقول للأنظمة الحاكمة إنها لا يمكن أن تستمر في حماية العنصرية والفاشية الجديدة.
هكذا حصل مع جنوب إفريقيا العنصرية، حين وصل الأمر إلى حدّ عدم القدرة على التواطؤ والحماية الغربية لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
وهكذا حصل حين نهض الرأي العام الأميركي في مواجهة السياسة الاستعمارية في فيتنام، ولكن كل ذلك استند إلى مقاومة وكفاح من قبل شعبي جنوب إفريقيا وفيتنام، والأكيد أن الشعب الفلسطيني لن يتباطأ، عن مواجهة المخططات والسياسات العنصرية والتوسعية الإسرائيلية.