لم تكد تمرّ ساعات قليلة على الانفجار الذي وقع في منجرة ببلدة بيتونيا جنوب رام الله، حتى وبدأت الأجهزة الأمنية الفلسطينية حملة اعتقالات واسعة بحق أسرى محررين، وبالتوازي مع ذلك كانت الماكينة الدعائية للأجهزة تروج لفكرة أنه جرى إحباط انقلاب ضد السلطة الفلسطينية واعتقال 19 شخصا خططوا لعمليات اغتيال ضد شخصيات سياسية بتوجيه من حركة حماس بالداخل والخارج.
ورغم أن هذه الدعاية تقودها جهات أمنية وأخرى محسوبة عليها، إلا أن مصادر أمنية مطلعة على تفاصيل القضية تنفي وجود علاقة لحماس بالمواد المتفجرة الموجودة في المنجرة، وتوضح أنها كانت معدّة بالفعل لأعمال مقاومة. وقد جاء اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي لبلدة بيتونيا وقيامه بتفتيش المنجرة، ليعزز الافتراض بأن التقدير الأساسي لدى الجهتين هو ارتباط الموضوع بمقاومة الاحتلال.
ويشير سلوك الأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي نفذت حملة اعتقالات واسعة بحق أسرى محررين، واقتحام جيش الاحتلال المتأخر نسبيا لمكان الانفجار، إلى وجود تحقيقات مشتركة وأخرى منفردة تجريها مخابرات الاحتلال والأجهزة الأمنية، خاصة وأن التقديرات المشتركة لدى الطرفين كانت تستبعد وجود مختبرات للمتفجرات في الضفة الغربية، وهو ما كانت قد أفادت به القناة 12 العبرية في تقريرها الذي نشرته في 5 أبريل الماضي حول تنامي ظاهرة مجموعات المقاومين في الضفة، وكان لافتا في حينها أنها أوردت جملة "تقديرات الجهات الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية تشير لعدم وجود مختبرات متفجرات"، أي أن هناك تقديرات مشتركة حول الأمر..
ويوضح ما سبق أن التنسيق الأمني لا زال فاعلا وبقوة، حتى قبل أن يقتحم جيش الاحتلال البلدة، كانت الأجهزة الأمنية قد شنت حملة اعتقالات بحق أسرى محررين ومددت معتقلين على القضية. حتى أن تأخير الجيش لاقتحامه يدلل على وجود ترتيب وتنسيق معين بين الطرفين، لأن الافتراض الأساسي هو أن الانفجار الذي وقع لو كان خارج نطاق سيطرة الأجهزة الأمنية لاقتحم جيش الاحتلال المكان خلال ساعات قليلة.
وبالتوازي مع هذا العمل الأمني المباشر من الاحتلال والسلطة، كانت صفحات وحسابات ومجموعات على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي تحاول تعميم رواية أن المتفجرات التي ضبطت كانت معدّة لتنفيذ انقلاب ضد السلطة وليس لعمل مقاوم ضد الاحتلال. صحيح أن الغالبية من الفلسطينيين لم تصدق هذه الرواية، ولم تتعامل معها وسائل الإعلام، إلا أنها تكشف عن سلوك أمني يهدف لتشويه كل محاولة للعمل المقاوم بالضفة، تماما كما كان يُطلق على مطاردي مخيم جنين بأنهم "زعران" ثم نجد بعضهم في قوائم الشهداء في اليوم التالي.
وأكثر المعلومات التي انتشرت، غرابة، هي الزعم بوجود نفق أسفل المنجرة يصل لمقرات الأجهزة الأمنية ولمقر المقاطعة، وهو ما قابله رواد ومستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي باستهجان واستغراب وتندر، ونفى صحته كثيرون ممن وصلوا إلى المكان. لكن، قد يكون السبب وراء ارتفاع وتيرة الضخ الإعلامي هذه المرة فيما يتعلق بالمنجرة وانفجارها، عائد لحسابات داخلية تتعلق بحركة فتح وأيضا السلطة، التي أصبحت تعاني من خلافات وانشقاقات داخلية تتسع وتيرتها ووضوحها مع كل حدث سياسي عام، ومع كل خسارة وتراجع في مختلف الساحات والقطاعات، وأصبحت الحاجة ملحة بالنسبة لها لخلق سردية مرعبة ومفترضة لعدو وهمي ومفترض من أجل جمع شتاتها ولفت الأنظار عن الوضع الذي وصلت له بسبب سياسات قلة متنفذة.
والغريب في النقطة السابقة، أن التحقيقات مع المعتقلين سرية بأمر من النيابة، ولكن عشرات الصفحات والحسابات الحقيقية نشرت تفاصيل هوليودية حول تخطيط المعتقلين لتنفيذ عمليات ضد السلطة، وهذا النشر مخالف لتعليمات النيابة والقضاء، ولكن أحدا لم يُستدعى على هذا الفعل المخالف للقانون، والنشر بذات الصيغة يدلل على وقوف جهة ما وراء ذلك، ما يعني أن هذه الحسابات وأصحابها محميون عندما يعارضون القانون لتشويه المقاومة.
وتلخيص ما سبق، يعطي عدة استنتاجات: أولا، التنسيق الأمني هو عامل مؤثر وفاعل في إحباط مساعي المقاومة لتطوير عملها في الضفة الغربية. ثانيا، التنسيق الأمني لم يعد تسليم معلومة أو تعذيب معتقل، فقط، بل أصبح نشر ثقافة مضادة تحاول تشويه كل عمل مقاوم. ثالثا، التقديرات الأمنية سواء الإسرائيلية أو الفلسطينية بشأن مساعي المقاومة لتنفيذ عمليات قد تخطئ أحيانا كثيرة، وقد تصل مساعي المقاومة لحد لا تتوقعه هذه الجهات. رابعا، التعاطي الهش من قبل قاعدة فتح التنظيمية مع الرواية التي تحاول الأجهزة الأمنية تصديرها حول انفجار المنجرة يؤكد على أن هؤلاء لم يفقدوا الثقة أمام عموم الجمهور الفلسطيني فقط، بل أمام جمهورهم المفترض.