أثبتت وقائع رمضان ومن بعدها الاقتحامات الأربعة التالية والجنازتان المشهودتان أن معركة القدس تدخل مرحلةً جديدة على مستوى المقدس وعلى مستوى السيادة، وأنها ستكون عنواناً عريضاً لكل مواجهاتنا المقبلة.
أثبتت هذه المواجهات كذلك أن هذه المعركة مفتوحة على الانتكاسات كما هي مفتوحة على أوسع الممكنات، وإدارتنا لها وخياراتنا فيها لها دور مصيري فيما يمكن فرضه على المحتل خصوصاً وأن موازين القوى الدولية والداخلية تسمح بدفعه للتراجع؛ لكن هذه الإمكانية كامنة وليست تلقائية التحقق، ومن الممكن قطفها واستغلالها ومن الممكن كذلك تفويتها وتضييع فرصٍ ثمينة فيها.
وأمام هذا التذبذب بين الانطلاق والإنجاز في 2021 والإحباط والمحدودية في 2022، وبين يدي نبوءة تلقي ظلالها على الوعي الفلسطيني بالمعركة، ومع مرور 55 عاماً على استكمال احتلال القدس وخمس سنوات تقريباً على افتتاح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمعركة التصفية؛ فلا بد من وقفات مع معركة القدس انطلاقاً من ضرورة ضبط البوصلة لقطف الفرص ومنع تفويتها ما أمكن، ويمكن القول إن هذه الوقفات النقاشية والنقدية تتطلع إلى الانطلاق نحو الفعل بأنجع الوسائل الممكنة، وهذا ما يجعلها –بنظر الكاتب على الأقل- ضرورية ومُجدية.
نحتاج إلى وقفة مع الرؤية الصهيونية تجاه الأقصى، فهل نحن نواجه التقسيم الزماني والمكاني؟ أم نواجه رؤية إحلال ديني تسعى إلى إزالة الأقصى من الوجود بكامل مساحته وتأسيس "الهيكل" في مكانه؟ وما علاقة الإحلال بالتقسيم؟ وهل ما زالت المخططات الصهيونية في خانة التقسيم أم تعدتها؟ ولماذا هذه الاستماتة الصهيونية لفرض الطقوس والعبادات؟ وهل نحن نواجه في الأقصى جماعات متطرفة هامشية؟ أم أن تهويد الأقصى بات مشروعاً سياسياً مركزياً للكيان وأجهزته ومؤسساته؟ هل كان تقديم القربان وهدم قبة الصخرة أهدافاً ميدانية "أفشلناها" فعلاً؟ أم هي أهداف استكشافية تعبوية استثمر الاحتلال تعلقنا بها لتمرير السقف الفعلي الذي كانت الأجهزة الرسمية تتطلع إلى تمريره دون رد مناسب منا؟
نحتاج من بعدها إلى وقفة مع كيفية التصدي لهذا الخطر، فالرباط المنظم ومن بعده تجربة الهبات الخمس التي تجلت فيها الإرادة الشعبية كانت غطاء الأقصى التي لا ينكشف وسلاح المعركة الذي لا يغيب، فكيف انتقلنا من هناك إلى التعويل على الفعل العسكري في غزة باعتباره الغطاء الوحيد للأقصى وعنوان الردع الذي تغيب المعركة إن غاب؟! فهل حقاً يلغي الفعلُ العسكري بالضرورة الفعل الشعبي؟ وما هي معادلة التكامل فيما بينهما؟ وكيف يمكن تفعيلها والبناء عليها؟ وهل من واجب المقاومة المسلحة أن تدخل في معادلات تفصيلية في المسجد القبلي أو رفع العلم؟ وهل حقاً فُرضت هذه المعادلات أم أن إعلام المقاومة دخل في مأزق إثبات معادلات لم تحصل؟ هل تُشكل معادلات تفصيلية كهذه إضافةً للمقاومة أم عبئاً عليها؟ ولماذا كل هذا التصعيد الكلامي المتكرر؟ وهل التصعيد الكلامي في المحصلة صب في خانة رفع المعنويات أو ردع المحتل؟ أم صب في خانة إحباط الفعل الشعبي وجمهور المقاومة المؤمن بها؟ هل خسرت المقاومة حقاً في 29-5 ما كسبته في 2021 إذ لم تتدخل؟ هل معادلاتنا بهذه الهشاشة حتى تُلغى بجرة قلم؟ أم أننا ننزلق إلى زوايا رغائبية تدفعنا للتقليل من قيمة إنجازاتنا وموقعنا في المعركة؟
ثم ماذا عن الإدارة التي تتولى المسؤولية المباشرة عن المسجد الأقصى المهدد وجودياً بأجندة إحلالية؟ هل يمكن لإدارة تحت سقف دولة ترتكز إلى موقف تفاوضي-تطبيعي أن تتصدى للخطر الوجودي؟ أم أنها تنزلق بالتدريج إلى دور الإدارة الوسيطة المعنية بمنع المواجهة في الأقصى أكثر مما هي معنية بحمايته؟ وما هو الموقف منها؟ ألا يُعدّ نقدها تحويلاً للبوصلة نحو الداخل وتحقيقاً لأهداف المحتل؟ وهل يلغي عدم النقد بالمقابل هذا التحول في موقف هذه الإدارة على الأرض؟ ألسنا نسمح حينها بنشأة وسيط استعماري جديد في الأقصى قد ننتهي إلى أنه هو من يواجه المرابطين ويمنع الاشتباك والمحتل يتفرج؟ وكيف يمكن أن نتجنب هذا المصير؟ وهل دبلوماسية المجاملات تصلح لهذا الموقف؟ هل حقاً يمكن التعامل مع الأردن باعتباره "دولة شقيقة" في هذا الموضوع؟ هل إدارة عنوان الصراع الأهم ومفجر الثورات الشعبية الأوحد على مدى ثلاثة عقود من الزمن "شأن داخلي" لـدولة شقيقة نتركه من باب "عدم التدخل في شؤون الدول"؟!
ماذا عن معركة القدس الأوسع، ما هي عناوين معركة السيادة؛ هل ساحة باب العامود ساحة لبعض "الزعران" الذين "يعاكسون فيها البنات" كما حاول بعض "المشايخ" يوماً أن يروجوا عنها؟! أم أن المحتل بات يختزل سيادته في المرور من هذه الساحة؟ هل هي معركة للتضليل والإشغال عن الأقصى حقاً؟ أم هو حبنا للتعلق بالفروق الأيديولوجية الصغيرة الذي يدفعنا للذهاب لمثل هذه الاستنتاجات؟ هل حقاً يجب أن تكون المعادلة بين ساحة باب العامود وساحة الأقصى صفرية -هذه على حساب تلك؟ وهل حقاً كسبنا معركة الشيخ جراح أم خسرناها؟ أين نقف في تلك المعركة وأين يقف اليسار الصهيوني وما هو موقف أهل الحي شرقيه وغربيه؟ ماذا عن سلوان ومعاركها، هل ننتصر فيها متفرقة وهل يمكن دفعها لخانة الفعل الشعبي الموحد؟ وماذا عن معركة العلَم، أليس علم فلسطين هو علم سايكس بيكو؟ وهل حقاً لم يطرأ أي تغير على معناه وقيمته منذ 1916 حتى الآن؟ ألم تغيّر الثورات والانتفاضات معناه ليصبح عنوان مواجهة الصهيونية على أرض فلسطين؟ وإن كان هو علم سايكس بيكو فلماذا يستفز المحتل إذن؟ ولماذا يرهق المحتل نفسه وأجهزته في إزالته؟ أم هو عبء الأيديولوجيا علينا من جديد؟
ماذا عن معركة الصمود، هل قمنا بالواجب فيها أم تركنا المقدسيين فيها لمصيرهم؟ هل هي أولوية أم عنوانٌ للتغني فقط؟ إن كانت أولوية فلماذا وصل المقدسيون إلى الاضطرار لهدم معظم البيوت بأيديهم تحت وطأة التهديد؟ هل كانوا ليشعروا بهذا الاضطرار لو لمسوا أن لهم ظهيراً؟ هل حقاً لدينا "استراتيجيات" للصمود أم هي أوراق خيالية غير قابلة للتطبيق؟ هل المشكلة في السلطة وعدم تخصيص الميزانيات فقط؟ وهل تخصص فصائل المقاومة ميزانيات للقدس واستراتيجيات ذات معنىً؟ إن كان الأمر كذلك فلماذا كاد أهل الشيخ جراح يوقعون على تسوية منفردة أمام المحكمة؟ هل تسللوا بليل أم أُدير الظهر لقضية كانت عنواناً مركزياً لحرب كاملة؟ هل حقاً تتكفل الجمعيات والمؤسسات بالصمود؟ هل هذا هدف يمكن تركه للأداء الجمعياتي أساساً أم هو هدف سياسي لا بد له من استراتيجية؟ هل تحويل المقدسيين لجيش من متلقي الطرود الغذائية تعزيز للصمود حقاً أم تقويضٌ له؟ وهل وجبات الصائمين في الأقصى يمكن أن تكون عنوان دعم الأمة لمدينة تخوض معركة تصفية وجودية؟
ماذا عن الزيارة؟ هل يمكن لها حقاً أن تعزز الرباط أو أن تحل محل أهل البلاد الذين يُغيّبون قسراً عن مسجدهم؟ أليس مشروعاً طرح هذا السؤال بعد ما شهدناه من محدودية الرباط في الأقصى؟ أم أن الطرح المتكرر لهذا السؤال يتولى دوماً لفت الأنظار عن الواحب الأهم الذي هو دعم الصمود ومنع الاستفراد بالرباط؟ هل يتطلب ذلك زيارة القدس ليتحقق أم أنه متيسر من دونها؟ هل حاولنا بجدية تفعيل المؤاخاة مثلاً؟ أم أن الزيارة ممكنة والمؤاخاة مستحيلة؟! وهل السياحة فعل رباط أو يمكن تحويلها لفعل رباط من الأساس؟ ماذا عن الضفة الغربية ودورها في هذه المعركة؛ ألا تشوش المواجهة في الأقصى على "الزائرين" الذين يأتون للأقصى مرة في العام؟ أليس الأولى أن نتيح لهم فرصة الصلاة "دون تشويش"؟ هل حقاً نريد أن نصلي في الأقصى بأي ثمن؟ هل نحن سواح في الأقصى أم مرابطون؟ هل غايتنا أن نحميه كمقدس أم أن نحقق غايتنا منه بغض النظر عن مصيره؟ وهل حصر المواجهة على الأقصى في ساحاته تجعلنا نكسب المعركة أم نخسرها؟ وكيف يمكن أن لا تنحصر فيه؟
وماذا عن التطبيع العربي، هل هو تطبيع أم تحالف؟ هل يصب هذا التطبيع في مصلحة الأقصى كما تروج دعاية مرتكبيه؟ أم هو تطبيع ينص على بيع الأقصى في اتفاقاته؟ وهل "السائح العربي" بموجب هذه الاتفاقات زائر أم مقتحم؟ أليس مسلماً له حق الصلاة؟ وهل كونه مسلماً يسوغ له أن يدخل الأقصى من بوابة اتفاقيات تتنازل عنه وتحوله إلى مقدس مشترك؟! وهل يمكن أن نعارض التطبيع ونقبل الزيارة؟ وإن فعلنا فما هو معيار الممنوع والمقبول؟ وهل هذا التطبيع صفري بلا أثر أم هو خطر جسيم على الأقصى؟ إذا كان صفرياً فلماذا افتتح المحتل عدوان رمضان بقمة النقب مع حلفائه العرب؟ وإن كان خطراً جسيماً فلماذا اضطرت الدول ذاتها لاستدعاء سفراء الاحتلال لديها؟ وهل للتطبيع أفق مع عدو يريد إزالة الأقصى من الوجود ويحاول ليل نهار فرض الطقوس التوراتية فيه؟ أم أن الأقصى سيكون الصخرة التي يتبدد عليها وهم التطبيع؟
أسئلة كثيرة مهمة، والوصول إلى إجاباتها حيوي ويعين على خوض معركة القدس ببوصلة واضحة، وبعيداً عن قنابل الدخان ومحاولات التضليل، وقريباً ما أمكن من وقائع المعركة وحركيتها، وبعيداً ما أمكن عن أماني النفس ورغباتها ومصالحها، فهذه دعوة للتفكير، ولضرورة البحث الجاد الجمعي عن إجابات ممكنة وضرورية.