بعد بضعة شهور من دخول السلطة الفلسطينية لقطاع غزة، وفي ١١ تشرين الثاني ١٩٩٤؛ ثأر الشهيد هشام حمد لقائده في "قسم" الاسم السابق للجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي الشهيد هاني عابد الذي اغتاله العدو، وضيقت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة على جنازة الشهيد وصعدت حملاتها لتحطيم فصيله وبقية من المجموعات المسلحة التابعة لحركتي الجهاد الإسلامي وحماس.

يوم الجمعة ١٨ تشرين الثاني ١٩٩٤، كان على الفلسطينيين في قطاع غزة أن يواجهوا رصاص الأجهزة الأمنية في محيط مسجد فلسطين ليسقط منهم ١٢ شهيدا، ذلك حين احتشدوا بعد صلاة الجمعة تأييدا للعملية، وفي اليوم التالي خرجت مسيرات البيعة تجدد دعم الحزب الحاكم وسلاحه للسلطة ونهجها، وأطلق الكثير من الرصاص والتهديدات في الهواء، حينها آثرت فصائل المقاومة الصمت، وأطلقت كلاما آخر عن البوصلة الموجهة للاحتلال، خصوصا أنه لم يكن بوسعها الكثير في ظل مشروع السلطة والتسوية الذي وقف وراءه عالم بأكمله، تلك غزة في العام ١٩٩٤ وفي الطريق لمعركة سيف القدس في أيار ٢٠٢١ نزفت من دمها الكثير، وراكمت مجموعات من المطاردين، إلى مقاومة نراقبها ونحاسب كل لفظ يصدر عنها في حزيران ٢٠٢٢.

غزة المحاصرة والمقاتلة كانت لتبقى نموذجا عن الفداء حد الموت، لكن هناك من اختار أن يشعل اشتباكه مع الاحتلال مستعيدا اتصال فلسطين بهويتها وجزر النضال المتفرقة ببعضها،  لتشرق المقاومة المسلحة على بقية من فلسطين في هبة القدس أكتوبر ٢٠١٥، هذا كان خيار القدس وأهلها، والذي أعطى الكثير لغزة ومقاومتها المسلحة وللآمال في استعادة بنية النضال الفلسطيني وهويته.

 ومنذ أكتوبر ٢٠١٥ باتت "معازل الفلسطينيين" أكثر ميلا لحمل السلاح وإفراز التمرد وتجاوز الخطوط الحمراء لوكلاء الاحتلال فيها، ولتقسيمة الأدوار بين النخبة الفلسطينية السياسية التقليدية على جانبي الخط الفاصل بين المناطق المحتلة عام 1948 وتلك المحتلة عام 1967، وإذا كانت هبة القدس ٢٠١٥ فاتحة لنضالات محلية الحيز بوسع المحللين الانشغال بتتبع ورسم خرائطها وقراءة أسبابها ومظاهرها، فإن ما أحدثه شعب فلسطين في أيار ٢٠٢١ هو صورة عن شبكة التمرد والنضال الفلسطيني القادرة على استنزاف الاحتلال. 

ومن القصور أن يتم تفسير مشاعر الفلسطينيين بالخذلان والغضب والمهانة جراء اقتحام العدو المسجد الأقصى وتنفيذ مستوطنيه لمسيرة الإعلام، باعتبارها نتاج وعود وتصريحات وتهديدات أطلقتها قيادات الفصائل الفلسطينية، ولكنها جزء من ثقة اغلبية فلسطينية بقدرة هذا الشعب على مواجهة عدوه، وتعلقه بنماذج سابقة نجحت في إفشال أهداف الاحتلال وإسقاط عدوانه في عديد من المحطات، وخصوصا في أيار ٢٠٢١، وهذا تحديدا ما يجب أن يكون نقطة الارتكاز في مقاربتنا لمفهوم ومهمات النضال في هذه المرحلة، فشعبنا ليس في الموضع نفسه لا هو ولا مقاومته ولا توقعاته منها، وكذلك عدونا، وتخيل مهمات الأمس باعتبارها مهمات لهذا الحاضر هو الفشل الخطير الذي يجب الوقوف عنده، لا اقتحام العدو لمدينة يحتلها منذ العام ١٩٦٧. 

حرب الغد.. مهمات الماضي 

تخيل أن إقناع الفلسطينيين بالانحياز لفصائل المقاومة وتأييدها هو مهمة نضالية باتت أقرب للمزحة، 

فخلال العقد الأخير دخل جيل جديد من الفلسطينيين "عمر النضال"، وهذا الجيل قد وعى على فلسطين مختلفة، ينظر فيها لغزة والمقاومة المسلحة كمصنع للبطولات، ويبنى تصوراته وخيالاته الخاصة حولها، وكذلك عن النشاط الوطني والنضالي وأدواره ضمنها، ذلك في ظل تقويض البنى التنظيمية الفلسطينية في الضفة التي شكلت لسنوات طويلة مدرسة التنشئة السياسية للفلسطينيين، وإصرار النخبة السياسية التقليدية الداخل الفلسطيني المحتل عام 48 - أحزاب الكنيست- على عزل جمهورها عن النضال الوطني الفلسطيني، جيل يسهل اتهامه بأنه "ألتراس للمقاومة" أكثر من كونه جزءا منها، ولكنه بالتأكيد أبعد عن مشروع التسوية من سابقه بكثير، فيما واقع وعيه وممارسته لدوره النضالي ليس إلا نتاج برامج الفصائل الفلسطينية تجاهه وتجاه الجماهير الفلسطينية بشكل عام، أكثر مما هو نتاج لسياسات الاحتلال وشركائه، فهنا الحديث عن جماهير تنحاز للمقاومة، وتفتقد للتنظيم.

دخلت معركة فلسطين مرحلة جديدة، وانخرطت أجيال جديدة في الاشتباك، وامتدت بؤر النضال وشبكة الفعل الفلسطيني لمساحات جديدة تنتج وتبني نماذجها وأدوات فعلها محاصرة تحت وطأة القبضة الأمنية الاحتلالية وإرث ثقيل من تقاليد وممارسات لنخب تقليدية استسلمت لمعايير التقسيم والعزل الاستعماري، وفي هذه المرحلة والمساحة لا يمكن الاستسلام لتصورات حول النضال الفلسطيني تستبطن ذلك التأثير حتى وإن خالفته سياسيا.

في هذه المساحة والمرحلة لم يعد بالإمكان تصور الإعلام وتأثيره كبديل عن تنظيم الذات وتطوير أدوات المواجهة، والركون لأوهام حول دور وسائل التواصل الاجتماعي أو تطبيقات المواعدة والترفيه في تنظيم جماهير وبؤر النضال التي تخوض اشتباكا حقيقيا وتواجه رصاصا واعتقالا حقيقيا، فمهمات الحشد والتعبئة والتنظيم واجتراح المهمات للاشتباك وبناء الوعي المشترك بأهمية هذا كله لا يمكن النهوض بها بإحياء التقاليد البالية لقيادة مشروع التسوية في حشد البيعة والتأييد، فالتحدي الذي يواجه مشروع المقاومة برمته وليس فصائله فحسب، ليس منافسة مشروع التسوية على تعاطف الفلسطينيين، بل مواجهة مع مركبات وأدوات منظومة القمع الاحتلالي في فلسطين وداعميها ووكلائها، والتعامل مع التأثير المميت الذي أحدثه ويحدثه هذا المشروع من تجريف لبنى النضال الوطني، وتعرية للمجتمع الفلسطيني من أدوات للدفاع عن ذاته وقطع للتجارب الوطنية وما تختزنه من خبرات جماعية في المواجهة.

لا يتعلق هذا باستخدام قيادة فصائل المقاومة للتهديد لردع العدو عن التمادي في جرائمه في القدس، أو بقرارها بعدم إطلاق الصواريخ ردا على هذه الجرائم، بل بتخيل الرشقة الصاروخية بما تحمله من رمزية باعتبارها "المقاومة" التي تصفق لها الجماهير وتهتف باسم قادتها، هؤلاء القادة ذاتهم جاءوا من سياق نضالي ممتد ومتجذر استثمر فيه مجتمعه وحمل إرادة هذا المجتمع في المواجهة والاشتباك ودفع ولا زال يدفع أثمانا كبيرة للحفاظ على بنية المقاومة وجاهزيتها وسلاحها، وسيدفع أثمانا أكبر لتجاوز دور الكتلة الفلسطينية المسلحة إلى موضع قاعدة الارتكاز الفاعلة والنشطة لبؤر المقاومة بكافة أشكالها على امتداد فلسطين، ومستودع لقدرات تنظيمية وتعبوية يختزن موارد فلسطينية هامة ويضعها في خدمة توسيع مساحة الاشتباك. ويسهم في بناء نموذج نضالي فلسطيني قادر على إدراك مهماته وتجديدها وتوسيع حيز الشراكة فيها.

بناء هذا النموذج النضالي ومعه قدراتنا على المواجهة الناجعة للمحتل، يتمحور حول الحقائق وليس فقط "إدارة الشؤون المعنوية"، وحقيقة قدراتنا في المواجهة، وأوجه القصور والثغرات، وترسبات مناطقية أورثتها سنوات الاستسلام لسياسات العزل الاحتلال، فالفصائل والبنى الوطنية المنظمة، ليست محض بنادق بل هي مشروع سياسي يسعى لتنظيم النضال الفلسطيني بما يمكنه من هزيمة المشروع الاستعماري الصهيوني.

في سياق البناء النضالي تحت نار العدو، يبنى الوعي والقدرة بالتجارب، وبالجدل الحي والنشط بين مكونات العمل النضالي، وإذا كان هناك ما يمكن أخذه من تجارب العام الأخير؛ أن الفلسطيني في القدس وحيفا واللد وجنين ونابلس قد أعطى روحا جديدة لمشروع تحرير فلسطين، وأن تمثلاتنا لأدوارنا في هذه الشبكة النضالية ستتطور بتطور هذا النضال وبمحطات الإحباط كما بمحطات الإنجاز، والأهم أن دور بنى النضال ليس حماية القدس المحتلة من جريمة أخرى على أهمية ذلك، بل استنزاف هذا العدو في كل شبر من فلسطين لحين تحقيق هزيمته الكاملة، فهذا هو مشروع نضالنا الوطني الذي سيواصل شعبنا نزف الدم وتقديم التضحيات لأجله.

وبؤر النضال الصغرى والفعل الجماهيري العفوي المستند لبنى بسيطة محدودة التنظيم قد وضع مهمات جديدة على عاتق قواه الأكثر تنظيما واختزانا للقدرات والموارد والتجارب، وأن الفلسطينيين أمام مسار مشترك بات من الممكن فيه أن تزيح القدس قطعة من سياج يحاصر غزة، وأن تضيف رصاصة في النقب وأخرى في الجليل الكثير لآلاف الصواريخ في غزة.