لا بد من ملاحظة الفارق بين المشهد الذي وقع في المسجد الأقصى العام 2000، حين اقتحم شارون المعارض في حينه، المسجد، وبين المشهد الذي وقع يوم الأحد الماضي، خلال ما تسمّى مسيرة الأعلام .
اثنان وعشرون عاماً تفصل بين المشهدين، من حيث تصاعد المخططات الإرهابية والعنصرية الإسرائيلية، وإصرار السياسة الإسرائيلية على مواصلة التقدم نحو تجريف حتى الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية ليس السياسية وحسب، وإنما الدينية والتاريخية والثقافية.
أدّى المشهد الأوّل العام 2000، إلى اندلاع الانتفاضة الثانية التي استمرت سنوات، لا نرى من المناسب، ولا نقصد البحث في تداعياتها ولكن لكي نلاحظ أن الشعب الفلسطيني، قد رفع من مستوى وحدته وجاهزيته لتحدي تلك المخططات، خلال مشهد يوم الأحد المنصرم تجاوزت حكومة بينيت كل الخطوط الخضراء والصفراء والحمراء، وأكدت مرة أخرى بعد مرات لا يمكن حصرها، أنها دولة احتلال مجرم عنصري وفاشي، وأنها دولة لا تحترم نفسها، ولا تحترم التزاماتها وتفاهماتها، أمام المتدخّلين في وساطات استهدفت ضبط الوضع عند حدود معينة لا تؤدي إلى الانفجار الشامل.
يشير المشهد في الجانب الإسرائيلي إلى تعمّق الكراهية والحقد ضد العرب والفلسطينيين، وضد أصحاب الديانات السماوية غير اليهودية. سمع العالم كله وشاهد الدعوات لقتل العرب والتحريض على أصحاب الديانات الأخرى، وسمع وشاهد العالم، أيضاً، الخطاب والهتافات التي يطلقها الفلسطينيون، سياسيين أو نشطاء بما أنه خطاب خال من الكراهية للآخر، وخطاب يحترم أصحاب الديانات، وبأنه خطاب سياسي إنساني، وهذا فارق أساسي.
دولة تتجنّد بكلّيتها، لتؤكد للعالم أنها دولة احتلال، وإلّا فإن كان الأمر يتعلق بالسيادة، فإن من يريدون ذلك ليسوا مضطرّين لأن يجنّدوا أكثر من ثلاثة آلاف شرطي عدا الجيش والخيّالة والشرطة السرية والمستعربين، لحماية المسيرة، والتنكيل بالفلسطينيين الذين يرفعون العلم الفلسطيني.
أي سيادة هذه تتطلب استنفار الجيش، وتحليق الطيران الحربي، ونشر القبّة الحديدية، أم أن هذا يدل على خوف عميق، وشكوك ظاهرة، إزاء أحقّية الاحتلال في الحديث عن فرضية السيادة؟
ومع كل هذا الاستنفار الإسرائيلي الشامل، وغطرسة المستوطنين، فقد حضر العلم الفلسطيني، وحضر الإبداع، حين انشدّت أنظار المشاركين في مسيرة الأعلام، إلى العلم الفلسطيني الذي يُحلّق في السماء فوق الجميع، وأقرب إلى الشمس.
بقدر ما كان المشهد يوم الأحد، مستفزّاً، وإجرامياً، فإنه بالتأكيد ليس مشهداً انتصارياً للاحتلال، الذي يؤكد طبيعته العنصرية الفاشية.
بعد ما كتبه الصحافي جدعون ليفي في «هآرتس» وآخرون، عن الطبيعة الاستثنائية للشعب الفلسطيني، وصعوبة تطويعه، وقدرته الخارقة على الإبداع يعلن صحافي آخر، أن الشعب الفلسطيني ثامن عجائب الدنيا السبع.
يتبجّح المسؤولون الإسرائيليون، بأن مسيرة الأعلام قد أكّدت وحدة القدس كعاصمة أبدية لدولتهم، ولكنهم لا يدركون أنهم بما يقومون به، يجعل القدس بشقّيها الغربي والشرقي، عنوان صراع مرير.
هكذا وفي هذه الوجهة يتدحرج الصراع، ليتجاوز الحدود والقرارات الدولية وغير الدولية، وكل ذلك، لأن المخططات الصهيونية لا تعترف بحدود أو قرارات، أو منظومة أخلاقية، وأن تلك المخططات تركض خلف وهم تبديد وتشريد وإلغاء الشعب الفلسطيني.
لقد شكّلت المسيرة، وما رافقها من مظاهر، العسكرة والإرهاب، والقمع، امتحاناً لمن يصنّفون أنفسهم من الإسرائيليين على أنهم يسار أو وسط، تماماً كما أنه شكل امتحاناً لـ»القائمة العربية الموحدة» وللنائبة الزعبي من «ميرتس».
سقط الجميع في هذا الامتحان، دون أن يحققوا أي مكاسب لأنفسهم، لأن بينيت استحوذ على كل تلك المكاسب المؤقتة إن كان فيما جرى مكسب لأي حزب أو زعيم إسرائيلي. على نحوٍ حثيثٍ ودون توقّف، أو حتى إمكانية للتوقف عن تقديم دولة الاحتلال لذاتها، بما ينسجم مع جينها العنصري الفاشي، وباعتبارها دولة مارقة على التاريخ وعلى القيم الإنسانية والأخلاقية.
قبل المسيرة بما انطوت عليه من بشاعة وإجرام، كانت قد ظهرت أمام العالم أجمع الطبيعة العنصرية الفاشية للاحتلال، حين أقدم على اغتيال شيرين أبو عاقلة، واعتدت شرطته على مراسم تشييع جثمانها. وبعد يومين فقط تكرّر المشهد الإجرامي خلال مراسم تشييع الشهيد وليد الشريف، لكن المنظومة القضائية الإسرائيلية أثبتت أنها جزء أصيل من منظومة الاحتلال، تحمل صفاته الجينية، وتغطي على كل ممارساته العنصرية والإرهابية.
مسيرة الأعلام إذ تؤكد أنها مؤشر آخر، على إصرار الحكومات الإسرائيلية على تنفيذ مخططاتها التوسعية، والإلغائية العنصرية، فإنها ليست سوى حلقة من حلقات الصراع، وأن على دولة الاحتلال أن تنتظر الرد، ليس من خلال إطلاق الصواريخ، ولا حتّى من أي قرارات سياسية تصدر عن الفلسطينيين، وإنما من الشعب الفلسطيني الذي تتعمّق وحدته، وتتبلور هويته الوطنية الجامعة في كل أنحاء فلسطين التاريخية، قد يفرح البعض بسبب ما تنتجه ممارساته العنصرية والإجرامية، ولكنه سيبكي في النهاية.