لقد قيل، وما أكثر ما قيل وسيقال في استشهاد شيرين أبو عاقلة، وقد أصبح خبراً عالمياً ورمزاً تاريخياً فلسطينياً، وأكثر وأبعد.. وقد قوبل -وسيقابل لاحقاً- بالتجاوب؛ لأنه يعبّر مباشرة عن شعور القارئ، وما خلفه استشهاد شيرين أبو عاقلة في قلبه وعقله.
وما احتشاد جماهير القدس ومن أفلتوا من حواجز العدو خلف نعشها، إلاّ ليزيد من غضب الكيان الصهيوني وتخبطه، مما جعل مسيرة النعش تواجه معارك وصدامات مع الجيش الصهيوني لتسجل عليه جريمة أخرى، وهزيمة أخرى، ورصاصة قاتلة غادرة أخرى.
لقد ثار سؤالان لا بدّ من التوقف عندهما بداية: الأول لِمَ استُهدفت شيرين أبو عاقلة بهذا الاغتيال المتعمد، ومع سبق الإصرار والتصميم، بما يشبه تنفيذاً لحكم بالإعدام؟ ولماذا أصبحت شيرين أبو عاقلة خبراً عالمياً، ورمزاً فلسطينياً، وأنشودة على لسان كل حرّ في هذا العالم، وكل من يؤمن بالحق والعدالة، ويرفض الظلم والوحشية والعنصرية؟
لِمَ استُهدفت شيرين أبو عاقلة بهذا الاغتيال المتعمد، ومع سبق الإصرار والتصميم، بما يشبه تنفيذاً لحكم بالإعدام؟ ولماذا أصبحت شيرين أبو عاقلة خبراً عالمياً، ورمزاً فلسطينياً، وأنشودة على لسان كل حرّ في هذا العالم، وكل من يؤمن بالحق والعدالة، ويرفض الظلم والوحشية والعنصرية؟
الجواب عن السؤال الأول يتعلق بتاريخ شيرين أبو عاقلة على مدى خمسة وعشرين عاماً مراسلة (حربية) في فلسطين لقناة الجزيرة. وقد كانت خلالها الصوت المدوّي الشجاع، والعادل في إبراز وحشية جيش الكيان الصهيوني وجرائمه، وارتكابات السياسات الصهيونية. وقد تحوّل كل ذلك إلى ملف راح يكبر ويتضخم في رفوف الأجهزة الأمنية والسياسية حتى فاض الكيل، وصدر حكم الإعدام الذي ربما جاء متأخراً جداً بالنسبة إليهم، في 11 من شهر أيار/ مايو من العام 2022، وفي معركة اقتحام مخيم جنين.
فالاغتيال لم يحدث مصادفة، أو عن طريق الخطأ، أو في لحظة غضب، وإنما جاء بعد تراكم غيظ طويل من فتاة جعلت التقرير الإعلامي والصورة يفعلان مثل ما تفعله التظاهرة والرصاصة والحجر والمفرقعة، في مواجهة الاحتلال.
أما الجواب عن السؤال الثاني فإنما يكمن في تلك اللحظة التاريخية الاستثنائية التي اجتمع فيها وجود شيرين أبو عاقلة مع اقتحام الجيش الصهيوني لمخيم جينين، وما واجهه من صدٍّ رابع أو خامس لإفشاله من قِبَل مقاومة مسلحة، ومشاركة شبابية وشعبية بالحجارة وقذائف اللهب، لتحول بين الجيش والمقاومة..
يعني لو أن الاغتيال تمّ بليل، في مكان آخر وظروف أخرى، لما فعل فعله الذي تمّ في وضح النهار، وفي ذلك المكان، وفي تجمع عدة أبعاد في تلك اللحظة الاستثنائية.
اللحظة التاريخية التي جمعت شيرين أبو عاقلة بالمقاومة والهبّة الشعبية في صدّ الاقتحام العسكري المؤلل، مثلت بدورها جزءاً من لحظة تاريخية عالمية وإقليمية وفلسطينية مهيّأة لتجعل من استشهاد شيرين أبو عاقلة سبباً لتصبح خبراً عالمياً، ورمزاً فلسطينياً، في الجبهة الجامعة للمقاومة والممانعة وأحرار العالم
على أن اللحظة التاريخية التي جمعت شيرين أبو عاقلة بالمقاومة والهبّة الشعبية في صدّ الاقتحام العسكري المؤلل، مثلت بدورها جزءاً من لحظة تاريخية عالمية وإقليمية وفلسطينية مهيّأة لتجعل من استشهاد شيرين أبو عاقلة سبباً لتصبح خبراً عالمياً، ورمزاً فلسطينياً، في الجبهة الجامعة للمقاومة والممانعة وأحرار العالم.
ولقد أدى استشهاد شيرين أبو عاقلة في هذه اللحظة إلى كشف النفاق الأمريكي- الغربي في تبني ازدواجية المعايير، وفي فضح ما تقوم به أمريكا في أوكرانيا وفي فلسطين.
جاءت لحظة استشهاد شيرين أبو عاقلة فيما أمريكا والغرب يخوضان حرباً عالمية ضد روسيا، من خلال توكيل رئيس أوكرانيا فولودومير زيلينسكي لخوض هذه الحرب نيابة عنهما، وبالأجرة المدفوعة سلفاً، وفي كل يوم. إذ أنه فجأة أصبح هناك في نظر أمريكا والغرب، مقاومة مسلحة مشروعة ومدعمة علناً لتمضي إلى نهاية الشوط، وذلك بالرغم من التاريخ الطويل في إنكارهما لمشروعية المقاومة الفلسطينية، واعتبارها إرهاباً، وفي دعم الكيان الصهيوني الذي لم يشنّ حروباً في فلسطين فحسب، وإنما قام أيضاً باقتلاع ثلثي شعبها بالقوّة والمجازر، وأحلّ مستوطنين مكانهم ليسكنوا بيوته، ويستولوا على المدن والقرى، مع مواصلة الحرب العدوانية للمزيد من التوسّع والاستيطان واقتلاع من تبقى من أهل فلسطين.
هنا جاء استشهاد شيرين أبو عاقلة ليكون شاهداً شديد الصدقية على عدالة قضية فلسطين، وحق شعبها فيها من نهرها إلى بحرها، كما على جريمة الكيان الصهيوني من حيث أتى. ولهذا ارتبك ساسة الغرب وأغلب إعلامه حتى في نقل الخبر كما هو، وعندما سئل جو بايدن عن رأيه في "حادثة" اغتيال شيرين أبو عاقلة، قال ليس عنده معلومات عن الموضوع، مما يدل على أهمية تلك اللحظة سياسياً، وذلك حين لم تستطع أمريكا أن تصف عملية الاغتيال الإجرامية، كما اعتادت، بأنها حق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها، تغطية لكل عدوان وجريمة حرب.
هذا ويمكن أن يمتد انكشاف النفاق الأمريكي- الغربي إلى المتخاذلين من أنظمة عربية، ومن يتبعهم من إعلاميين وسياسيين ونخب، حيث أُربِكوا في ما يقولون ويعلقون. وقد ساءت وجوههم أمام جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة، وما حدث في جنازتها، وهم الذين راحوا يقولون إن الكيان الصهيوني ليس العدو، وجعلوا يخترعون الكلمات لتسويغ التطبيع مع قاتل شيرين أبو عاقلة، ووصل بعضهم إلى حد التحالف معه.
قادة الكيان الصهيوني مع كل هذه النتائج التي ترتبت على اغتيال شيرين أبو عاقلة سيعضون أصابعهم يوماً، ولكن القرارات الحمقاء هي سمة للتراجع والارتباك للقوة التي تمتعت بها لسنوات بالسيطرة والغطرسة. فالكيان الصهيوني راح يتخبط في مواجهة الوضع الفلسطيني الذي جعل القدس والضفة الغربية محور الصراع.
لا شك في أن قادة الكيان الصهيوني مع كل هذه النتائج التي ترتبت على اغتيال شيرين أبو عاقلة سيعضون أصابعهم يوماً، ولكن القرارات الحمقاء هي سمة للتراجع والارتباك للقوة التي تمتعت بها لسنوات بالسيطرة والغطرسة. فالكيان الصهيوني راح يتخبط في مواجهة الوضع الفلسطيني الذي جعل القدس والضفة الغربية محور الصراع، وهو الوضع الذي جاء مع حرب سيف القدس، والانتفاضات اليومية في أحياء القدس، والدفاع عن المسجد الأقصى، وتحرك شباب الـ48 عام 2021، ثم ما شهده العام 2022 ورمضان المبارك حتى الآن من عمليات عسكرية امتدت من بئر السبع، إلى الخضيرة إلى بني براك، إلى شارع دوزينغوف في تل أبيب، إلى عملية بيت إيل، وإلعاد، إلى ما فُرض على العدو من تراجع في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك هذا العام.
فالتراجعات التي فُرضت على العدو بفضل الفعل المقاوم والجماهيري والمواجهات في المسجد الأقصى، جعلته يأخذ قرارات أشد خطورة، ولكن أشد تخبطاً من قرار اغتيال شيرين أبو عاقلة، وفي مقدمها العمل على تفريغ المسجد الأقصى بعد انتهاء عيد الفطر من المصلين بعد كل صلاة يومياً ليتحقق مخطط الاقتسام الزماني، وهو ما سيتطلب مواجهات على أعلى مستوى، ويدخل في هذا الإطار محاولة اقتحام مخيم جنين.
وبكلمة، جاء استشهاد شيرين أبو عاقلة، ابنة القدس وابنة فلسطين، لا لتزيد من تألق عدالة قضية فلسطين فحسب، ولا إلى التأكيد على انتصار المقاومة نهجاً وثقافة واستراتيجية فحسب، وإنما أيضاً لتؤشر إلى أن مصير الكيان الصهيوني إلى هزيمة، فالرحيل والتحرير.