عمري الآن تجاوز خمسة وثلاثين عاما ومنذ أربع سنوات أنا متقاعد قسرا من مهنة التعليم على خلفية دوري القيادي في إضراب المعلمين الشهير شباط 2016، ومنذ أن كنتُ طالبا إلى أن أصبحت معلما وأخيرا متقاعدا خارج ساحة التعليم، شهدتُ العديد من إضرابات المعلمين كان هدفها جميعا الارتقاء بوضع المعلم المعيشي وتحصيل حقوقه المقرصنة..
لطالما كنا نسمع صغارا عن تدني راتب المعلم قياسا بالآخرين حتى عشناها معلمين على أرض الواقع وما زال الحال هو الحال، الأمر يتكرر كل مدة بما يوحي بشكل لا يدع مجالا للشك بأن وضع المعلمين ليس بخير، وبأن الحكومات الفلسطينية المتعاقبة لم تسعَ بشكل جدي لمعالجة أوضاع المعلمين بشكل جدي، يكفل إنهاء أسباب الإضراب وانتظام العملية التعليمية.
على العكس تماما يلاحظ أن القمع لآمال المعلم بالحياة الكريمة وبالتمثيل النقابي الحر لممثليه، هو سيد الموقف من مختلف حكوماتنا وأذرعها الأمنية، سياسة استخدام العصا دون وجود الجزرة.
في عام 2016 قام المعلمون بإضراب تاريخي تخلله اعتصامات حاشدة ولمدة تزيد على الشهر، عانى المعلمون فيها سياسة إدارة الظهر والاستعلاء والمماطلة والتسويف، انتهى الإضراب بخطاب من الرئيس محمود عباس منح فيه المعلمين علاوة لا ترقى للحد الأدنى من المطلوب ووعد بحل مشكلة تمثيلهم النقابي بالطرق الديمقراطية..
وافق المعلمون وعادوا منكسرين بعد تغليبهم للمصلحة الوطنية والسلم الأهلي، خصوصا أمام تهديدات فرض حالة الطوارئ واعتبار الإضراب عصياناً مدنياً، يمهد الطريق لقمع المعلمين، بعد هذه النتيجة قلنا بأن النار بقيت تحت الرماد وأنه لا بد أن تعمل الحكومة بجدية من أجل حل مشكلة المعلمين، ووضع خطة بجدول زمني تضمن معالجة كل القضايا التي من شأنها ضمان استمرار العملية التعليمية..
لكن ما حدث هو العكس فبعد عام 2016، زادات القبضة الحديدية على المعلمين وفق ما يبدو أنه خطة ممنهجة لتكميم أفواه المعلمين وضمان صمتهم، وعدم إتيانهم بأي حراك فتم التضييق عليهم وملاحقة منشوراتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي وإقامة اللجان على كل صغيرة وكبيرة، وهذا خطأ فادح لأن قانون الطبيعة يقول بأن الضغط يولد الانفجار لا الانكسار..
في سياق متصل تعرضت الحكومات الفلسطينية المتعاقبة وآخرها حكومة الدكتور محمد اشتية للعديد من الأزمات المالية، التي أرجعت سببها لاحتجاز الاحتلال لأموال المقاصة، وفي كل مرة لن نشهد حلولا خلاقة عادلة في توزيع أعباء الأزمة بل رأينا الإجحاف بعينه من خلال المساواة في تحمل الأزمة من كبار الموظفين الذين يتقضون رواتب ونثريات عالية وبين صغار الموظفين من أصحاب الرواتب المتدنية والأكثر تضررا هنا هم فئة المعلمين الذين يتربعون في أسفل الهرم للوظائف العامة، انتفض المعلمون عام 2020 مطالبين بعدالة التوزيع فكان الرد بالعقوبات مرة أخرى بإحالة الزميلة سحر أبو زينة إلى التقاعد القسري، كما جرى الحال معنا أنا والزميلة رجاء لحلوح والزميل أمين الصوص وآخرين من قبل، العصا مرة أخرى بلا جزرة ولو كذبا..
في هذه الأيام ما زلنا نشهد إضراب للمعلمين الفلسطينيين في المدارس الحكومية للأسباب التي ما زالت تتكرر متلخصة بالحقوق المادية والمعنوية والحق في التمثيل النقابي الحر يفجرها دائما المساس بالراتب الذي هو عصب الحياة اليومية للموظف، في ظل استخدام جديد لسياسة العصا عبر الخصم من الرواتب لمعاقبة المضربين، بدلاً من التفكير ولو مرة بالاستماع لمطالبهم ومنحهم حقوقا ملموسة لا فتاتا موعودة.
ما الحل؟!
اعتقد أننا هذه المرة وأمام إصرار الزملاء المعلمين وعدم اكتراثهم بالعقوبات التي اعتبروها أوسمة شرف، ينبغي أن نفكر بالحلول الجذرية بدلا من الحلول الموضعية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وألخص بعض الحلول الجذرية بالتالي:
أولا.. فتح حوار جدي مع المعلمين وقطاعات المجتمع المدني كافة يكون عنوانه الاستعداد التام لحل الأزمة دون تسويف ووقف كل أشكال العقوبات على المعلمين كبادرة حسن نية..
ثانيا.. منح المعلمين والعاملين في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية حقوقا مادية ملموسة وسريعة تضمن العدالة مع قطاعات الموظفين العموميين الأخرى..
ثالثا..دراسة قانون التقاعد والعمل الجدي على سن قانون يضمن التقاعد الكريم للمعلمين بعيدا عن شبح الحاجة بعد التقاعد..
رابعا.. منح أبناء المعلمين بعض الامتيازات لدراسة أبنائهم في الجامعات الفلسطينية..
خامسا.. الاعتراف بحقهم في التمثيل النقابي الحر وانتخاب ممثليهم بشكل نزيه من خلال وقف محاربة حقهم بتشكيل نقابة حرة ونزيهة..
سادسا.. وقف كل أشكال الاستعلاء والتكبر التي يقوم بها بعض المسؤولين الإداريين في الوزارة والمديريات على المعلمين..
سابعا.. إيجاد نظام حوافز عادل لتحفيز المبدعين منهم لما له الأثر من تبديد حالة الإحباط وضمان التجديد والابتكار..
أخيرا أدعو كل قطاعات الشعب الفلسطيني للوقوف والانحياز لمطالب المعلمين الفلسطينيين بالحياة الكريمة فلن نكون نحن ولا أجيالنا بخير طالما بقى المعلم مسحوقا مقموعا ولا خير في أمة ترضى بإهانة معلميها وبقائهم في أسفل الهرم ولله در الشاعر القائل
إن المعلم والطبيب كلاهما ... لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه ... واصبر لجهلك إن جفوت معلما..