تنتهج "إسرائيل"، في مواجهتها للحالة الكفاحية في فلسطين منذ أحداث أيار/ مايو الماضي، سياسة مركّبة، لا تبدو بعيدة عن خطة "إدارة الصراع" التي صكّها المستوطن والأكاديمي الإسرائيلي ميخا غودمان، وتبنّاها على نحو نسبيّ رئيس حكومة الاحتلال الحالي، نفتالي بينيت، والتي تعيد توظيف أفكار "إدارة الصراع" و"السلام الاقتصادي"، لتجاوز أطروحة حلّ الدولتين نهائيًا، أو بصيغ مخاتلة، وفي الوقت نفسه تحييد الفلسطينيين عن القيام بواجبهم التاريخي في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ضمن سلسلة خطوات متدرّجة اقتصادية وأمنية تقلّص من وطأة الإحساس بحضور الاحتلال المباشر.
على المستوى الإستراتيجي البعيد، تهدف خطة "تقليص الصراع"، إلى تقليص الاحتكاك الفلسطيني الإسرائيلي الفيزيائي المباشر، بما يستدعي التعديل على أدوات الضبط والسيطرة ومظاهر التداخل الموجودة في الضفّة الغربية، من حواجز وأبراج مراقبة وبوابات حديدية وطرق التفافية وكاميرات مراقبة، هي ذات وظيفة أمنية بالمفهوم المباشر وبالفهوم الإستراتيجي.
يعني ذلك أن تبقى "إسرائيل" متحكّمة بمسارات الحركة الفلسطينية، دون انسحاب من الضفّة الغربية، ودون احتكاك مباشر بالفلسطينيين، بما يقتضي أن تفتح لهم مسارات خاصّة متواصلة بين مدن الضفة الغربية تخلو من حضور إسرائيلي عسكري أو استيطاني كثيف داخل هذه المسارات، ويعاضد ذلك بطبيعة الحال، تسهيلات اقتصادية واضحة، من قبيل زيادة الأيدي العاملة من الضفة الغربية في الداخل المحتل عام 1948، وإيجاد منافذ للتجارة والسفر للفلسطينيين تجاه العالم الخارجي، مسيطر عليها ولكنها أكثر حيوية وسلاسة وأقلّ حملاً لمظاهر الاحتلال، بما يفضي إلى تأبيد الاحتلال وتزيين وقائع الفصل العنصري، وخلق شعور بالارتياح لدى الفلسطيني إزاء الواقع، المحكوم باحتلال خفيف الوطأة من حيث مظاهره الفجّة.
يسعى الاحتلال إلى نقل هذه السياسات إلى قطاع غزّة، بتجاوز مفهوم "الهدوء مقابل الهدوء"، نحو منح الفلسطينيين مكاسب اقتصادية متدرّجة، ولكنها واضحة، مثل إدخال الأيدي العاملة متدرّجة الزيادة العددية إلى الداخل المحتلّ، وتسهيل عملية الإعمار وإدخال الأموال من الخارج.
الناظر في المشاريع الاستعمارية القائمة للاحتلال في الضفّة الغربية، يلاحظ بالفعل، البدء بشقّ طرق جديدة، تضمن بقاء السيطرة الاستعمارية والضبط الأمني، بما يلغي الحاجة إلى فرض مرور الفلسطينيين على حواجز مباشرة، والملاحظ أنّ هذه المشاريع تبدأ في وقت واحد، في عدد من مناطق الضفّة الغربية، كالخليل ورام الله ونابلس، لكن الانتهاء من هذه المشاريع، سواء في البنية التحتية، أم في المسارات الاقتصادية، يحتاج وقتًا طويلاً لإنجازه، مما يعني أنّ الحاجة ستظلّ قائمة، في المدى المنظور والمتسوط، لمعالجات أمنيّة صارمة، تزداد مع تصاعد الفعل الكفاحي للفلسطينيين كما هو جار الآن، كما أنّ هذه الخطّة، لن تدفع نحو التخلّى عن إرادة تكريس الوقائع الاستعمارية في القدس والمسجد الأقصى، كما هو حاصل الآن، لاسيما وأن الصهيونية الدينية ترى في استكمال سيطرتها على المسجد الأقصىخطوة ضرورية في طريق الخلاص النهائي، مما يعني احتفاظ عناصر التثوير الفلسطيني بقدر من فاعليتها.
كيف تستفيد المعالجات الأمنية الجارية من خطة "تقليص الصراع"؟
إذا كانت خطة "تقليص الصراع" تهدف إلى بقاء الاحتلال مع تخفيف إحساس الفلسطيني بهذا الاحتلال؛ مما يفرض تقليص احتكاك الاحتلال بالفلسطيني، فإنّ المعالجة الأمنية الجارية، والحالة هذه، تسعى إلى القيام بالإجراءات الأمنية المطلوبة مع أقلّ قدر ممكن من الاحتكاك، وهي معادلة صعبة للغاية، لاسيما وأن خطة "تقليص الصراع" الإستراتيجية الكلّية، لم تُنجَز بعد، مما سيدفع نحو مظاهر عنف فجّة. ومع التطوّر المثير في أنماط أعمال المقاومة الفلسطينية، فقد تندفع المنظومة الإسرائيلية إلى تعمد العنف الممنهج في سياق استعراض القوّة على الفلسطينيين، وتوجيه رسائل الطمأنة للداخل الإسرائيلي؛ في حال بدت أعمال المقاومة دليلاً على فشل إسرائيلي ما، وبقدر ما يأتي العنف أيضًا استجابة لخطابات المكايدة السائدة في الأوساط السياسية والاجتماعية الإسرائيلية.
في الأثناء سيكون العنف حاضرًا بالضرورة ما دامت أيّ خطة كلّية لشلّ كفاح الفلسطينيين غير ناجزة، بغض النظر هل هي "تقليص الصراع"، أم أي رؤية إسرائيلية أخرى، كما أنّ خطّة "تقليص الصراع" تحمل تناقضات في داخلها، ما دامت لا تلاحظ الدوافع القومية لكفاح الفلسطينيين، كما أنه لا يمكنها الكفّ عن التمدّد الاستيطاني، أو تكريس الوقائع في المسجد الأقصى، ومن ثمّ هل يمكن تقنين العنف في إطار من "تقليص استخدام العنف"؟
الناظر في المشاريع الاستعمارية القائمة للاحتلال في الضفّة الغربية، يلاحظ بالفعل، البدء بشقّ طرق جديدة، تضمن بقاء السيطرة الاستعمارية والضبط الأمني، بما يلغي الحاجة إلى فرض مرور الفلسطينيين على حواجز مباشرة، تبدو سياسات "تقليص العنف" سابقة على طرح خطّة "تقليص الصراع"، وذلك في سياق القبول الضمني للسلطة الفلسطينية لمشاريع السلام الاقتصادي التي طرحها بنيامين نتنياهو، وتمكّن المنظومة الأمنية الإسرائيلية، في مراحل متدرّجة حاسمة، من عملية السور الواقي (2002)، إلى تبعات ما يسمى بالانقسام الفلسطيني (2007) من تفكيك النضال الفلسطيني المنظّم في الضفّة الغربية، بالتزامن مع جملة تسهيلات اقتصادية، لم يرافقها تفكيك للبنية الأمنية الفجّة، بل تكثيف لهذه البنية، بيد أنّ الأمن الإسرائيلي في الجملة، ومنذ انتهاء انتفاضة الأقصى، بات يميل إلى العلاج الموضعي للفعل النضالي الفلسطيني، لأسباب متعددة.
وكما أن خطة "تقليص الصراع" تستثمر الأطروحات السابقة عليها، حتى لو كانت تخالفها.. يعمل الأمن الإسرائيلي، على استثمار خبراته السابقة، في انتهاج العنف الموضعي، ولكن في إطار مشروع ذي أبعاد سياسية واجتماعية، تهدف إلى عزل المقاوم الفلسطيني عن سياقه السياسي والاجتماعي، وذلك لتحقيق ثلاثة أهداف.
الهدف الأوّل، وهو إجرائي، يسعى إلى حرمان الفلسطينيين من زخم الحالة الكفاحية، وذلك بالامتناع عن التفعيل الواسع لأدوات العقاب الجماعي الحاضرة بالفعل في البنية التحتية، كالحواجز الثابتة، وإشعار الفلسطيني بأنه لا شيء كبير شأن جار في الواقع، بدليل سلاسة الحركة وانسيابيتها بين مناطق الضفّة الغربية كافّة، فلن يلاحظ الفلسطيني استنفارًا أمنيًا استثنائيًا في الطرق والحواجز إلا بالقدر الذي تفرضه حماية المستوطنين في الطرق الالتفافية، وذلك بالرغم من وجود تأهب أمنيّ بالفعل، ولكنه يجنح إلى قدر أقلّ من الظهور والاستعراضية، فحتى العقوبات التي فرضها الاحتلال على جنين عمومًا، عاد وأخذ بالتراجع عنها.
إنّ التوسع في الإجراءات العقابية، سيهدّد استقرار السلطة الفلسطينية التي تعاني تآكلاً ملحوظًا، وذلك في حين أنها ما تزال مهمة للضبط الاجتماعي في الساحة الفلسطينية، والتمويه السياسي على الحقائق الاستعمارية، كما أنه سيساهم في تكريس الحالة الكفاحية وخطاباتها ودعايتها، ودفع شرائح جديدة للانضمام للفعل النضالي.
الهدف الثاني، عزل المقاوم الفلسطيني عن سياقه الاجتماعي، وثمّة خطابات ضمنيّة في السياسات الإسرائيلية، والحالة هذه، أهمها إشعار الفلسطينيين بأنّ مشكلة الاحتلال مع المقاوم لا مع عموم الفلسطينيين، تأتي هذه الرسالة من تعمّد الاحتلال المعالجة الموضعيّة قدر الإمكان، بينما يسعى لإشعار عموم الفلسطينيين بأنّ المقاوم عبء عليهم، حينما تجنح سياسات الاحتلال للتوسّع في الإجراءات العقابية أو القتل، وذلك للقول إنّ المقاوم هو الذي دفع الاحتلال لهذه السياسات، وليس لأنّها سياسات أصيلة في بنية الاحتلال، وينبثق عن ذلك رسالة ثالثة، وهي أنّه، وطالما، أنّها ليست أصيلة في بنيته، فثمة إمكانية لحياة أسهل وأكثر تخفّفًا من حضور الاحتلال في حال كفّ الفلسطينيون عن المقاومة. تبدو فكرة "تقليص الصراع" حاضرة على نحو ما في هذه الرسالة.
بالرغم من أنّ الأمن الإسرائيلي لن يكفّ عن العنف في موقفه إزاء النضال الفلسطيني، وفي حمايته للوقائع الاستعمارية كالإصرار على تطبيع اقتحام المسجد الأقصى، فإنّه من الضروري الفهم العميق لآليات اشتغاله وأبعادها السياسية والاجتماعية.
الهدف الثالث، عزل الكفاح الفلسطيني عن أيّ سياق سياسي. في الأصل لا تتضمّن خطّة "تقليص الصراع" أي إجابات على الأسئلة السياسية الكبرى، كالحدود واللاجئين والقدس، وإنما إلى تغطية الاحتلال، مع إشعار الفلسطينيين بالتخلص منه، ينعكس ذلك في توصيف الفعل المقاوم الفلسطيني الجاري، فبعد عزله عن سياقه الاجتماعي، وإظهار المقاوم شاذًا بالنسبة لهذا السياق؛ تعيد "إسرائيل" تصوير الفعل وكأنه محض فعل إجرامي أو إرهابي، كأي دولة غربية لا تخلو من فعل إجرامي، دون أن يقف خلف هذا الفعل دافع سياسي، وتتجاوز الرسالة الفلسطينيين إلى المجتمع الإسرائيلي لإشعاره بعاديّة حصول مثل هذه الحوادث بالنسبة لدولة متطوّرة وآمنة، وذلك لتخفيف الشعور بعدم الأمن من جهة وبفشل المنظومة من جهة أخرى، ثم إلى العالم بأنه لا شيء مختلف عندنا عما يجري عندكم.
لا يمكن القول إنّ السياسات الأمنية هذه، منبثقة بالكامل عن خطّة "تقليص الصراع"، ولكنها تستثمر في الخبرة الأمنية الإسرائيلية الطويلة التي باتت تلتقي في معالجاتها الراهنة مع هذه الخطّة لاسيما في رسائلها وبعض إجراءاتها، وبالرغم من أنّ الأمن الإسرائيلي لن يكفّ عن العنف في موقفه إزاء النضال الفلسطيني، وفي حمايته للوقائع الاستعمارية كالإصرار على تطبيع اقتحام المسجد الأقصى، فإنّه من الضروري الفهم العميق لآليات اشتغاله وأبعادها السياسية والاجتماعية.