محاولة لإدخال قربان الفصح للأقصى، سخل صغير يهرب إلى الأقصى لذبحه، أو تهريب دمه بعد ذبحه خارج الأقصى ونثر الدم على أرضية قبة السلسلة؛ مئاتٌ من الصهاينة يقتحمون الأقصى ما بين الساعة السابعة والحادية عشرة صباحاً، يؤدون صلوات علنية جماعية، ويقرؤون مقاطع من سفر الخروج تحكي قصة نجاة اليهود الأولى من مصر، وإدخال خبز الفطير إلى الأقصى باعتباره الطعام المخصص لـ "عيد الفصح" العبري، واقتحامٌ للأقصى بثياب "التوبة" البيضاء باعتبارها لباس "كهنة الهيكل" عند تقديم القربان... هذا ما يدبر للأقصى في الأيام المقبلة، وعلى مدى تسعة أيام ما بين غدٍ الخميس 13 رمضان (14-4-2022) وحتى الجمعة 21 رمضان (22-4-2022).
لماذا سيحاول الصهاينة تركيز كل هذا العدوان على الأقصى في "عيد الفصح" العبري؟ ببساطة لأنه أحد "أعياد الحج" الثلاثة في التعاليم التوراتية، الفصح والأسابيع والعرش، الأعياد التي ينبغي أن تتركز طقوسها في "الهيكل" بالوصف التوراتي، وبما أن "الصهيونية الدينية" المعاصرة قد باتت تعامل الأقصى باعتباره هيكلاً، فلا بد من نقل كل الطقوس إلى الأقصى، ونتوقف هنا عند خمس قضايا لا بد أن تُعرف بين يدي هذا العيد الذي بات منذ 19 عاماً موسماً ثابتاً للعدوان المتصاعد على الأقصى:
أولاً: إحياء القربان عنوان إحياء الهيكل المزعوم: القربان هو الطقس الأبرز المرتبط بهذا العيد التوراتي، وهو يرتبط بـ "عيد الغفران" كذلك، وقد كان يشكل ذروة العبادات التوراتية في الهيكل، ومع "اندثار الهيكل" فإن القربان كان أبرز الطقوس التوراتية المندثرة بحسب الرؤية التوراتية، وإحياء القربان اليوم هو المقدمة الضرورية لإحياء الهيكل في وعي يهود فلسطين والعالم، باختصار؛ فإحياء القربان هو عماد إحياء الهيكل، هو عماد التعامل مع الأقصى باعتباره "هيكلاً" قائماً حتى وإن كانت أبنيته إسلامية.
ثانياً: مسيرة حثيثة لإحياء القربان: هذه الأهمية المركزية للقربان جعلت محاولة إحيائه محل سعي حثيث لجماعات الهيكل المتطرفة، استمر 14 عاماً. فبدءأً من 2008، تعاون "السنهدرين الجديد" بمجرد تأسيسه، وهو الذي يحاول أن يحيي دور الحاخامات كقضاة يقودون المجتمع اليهودي، مع "مهعد الهيكل" الذي كان قد سبقه بعقود إلى إحياء "طبقة الكهنة" الذين يقودون الطقوس في الهيكل المزعوم، ذهبا معاً إلى محكمة الاحتلال مطالبين بالقربان، وفي 2012 وصلت القضية لمحكمة الاحتلال المسماة "العليا" فردت القضية لـ"عدم الإمكانية" وليس لعدم الأحقية. لم تيأس تلك الجماعات، بل أخذت تعمل على إحياء القربان بمحاكاته وتطبيقه خارج الأقصى، فبدأت في 2014 بتدريب لطبقة الكهنة على القربان في "كريات موشيه" المقامة على أرض لفتا المهجرة غربي القدس، ثم حاولت أن تؤدي محاكاة كاملة دون انقطاع في 2015 في مساحة مفتوحة في مستوطنة شيلوه على أراضي قريوت شمال شرق رام الله، حتى إذا ما تأكدت من إتقان طقوس القربان جاءت بهذه المحاكاة إلى جبل الزيتون شرق المسجد الأقصى في 2016 ثم إلى داخل البلدة القديمة أمام كنيس الخراب في 2017 ثم ملاصقةً لسور الأقصى الجنوبي في منطقة القصور الأموية في 2018، ثم فوق سطح سوق اللحامين قبالة قبة الصخرة في 2019، ليقاطعها وباء كورونا في 2020، ثم داخل باب المغاربة في سور المدينة في 2021، وعودة بالأمس الإثنين إلى القصور الأموية ملاصقاً لسور الأقصى الجنوبي في 2022.
مسيرةٌ دامت 14 عاماً، عبر المحاكم والتطبيق، طافت حول الأقصى من الجهات الأربع متطلعةً إلى أن تًفرض فيه، ويعلن أصحابها ذلك بكل وضوح ويتحركون تحت حماية كاملة من الحكومة الصهيونية وأجهزتها... نحن لا ننتظر الأسوأ، فالأسوأ قد حصل، فهذه المسيرة التي تتطلع للانقضاض على الأقصى لا يمكن السكوت عنها وانتظارها لتصل إلى مآلها النهائي حينما تستكمل التحضير اللازم، بل لا بد من وأدها قبل أن تتقدم أكثر.
ثالثاً: حان وقت القطاف: أمام هذه المسيرة الطويلة، هناك قناعة واسعة لدى جماعات الهيكل المتطرفة، وحاخامات تيار الصهيونية الدينية بأن وقت القطاف قد حان، ولذلك اقتحم خمسون منهم المسجد الأقصى المبارك وعقدوا فيه "قمة حاخامية" غير مسبوقة، كان موضوع نقاشها المركزي كيفية فرض "قربان الفصح" في الأقصى، ومكان تقديمه وترتيباتها، سواء تمت هذا العام أو في أعوام مقبلة، ورشَحَت منها عدة تسجيلات مصورة، أبرزها للحاخام يهودا كروز وهو يشير لقبة السلسلة التي يزعمون أنها بنيت لـ"إخفاء معالم المذبح"، ويدعو إلى تقديم القربان فيها. جماعات الهيكل المتطرفة طلبت من شرطة الاحتلال مساعدتها على فرض القربان في الأقصى، ولما لم تتجاوب شرطة الاحتلال خوفاً من الرد، توعدوا أن يفهعلوا ذلك بأيديهم، وأعلنوا مكافآت مالية لأعضائهم لإدخال القربان ليكتمل التشجيع: ديني من جهة ومادي من جهة أخرى.
رابعاً: التقاطع الهجري-العبري: منذ 2019 بدأت جملة تقاطعات هجرية-عبرية، وضعت 28 رمضان مقابل ذكرى احتلال القدس العبرية وذكرى "خراب الهيكل" فمقابل عيد الأضحى ثم يومي عرفة والتروية، وعلى مدى ثلاث سنوات وظف الاحتلال لتلك التقاطعات ليكرس بأنه إذا ما تقاطع زمان عبري وآخر إسلامي في الأقصى فإن العبري هو الذي يعلو، وحاولوا بذلك أن يكرسوا بذلك بأن الأقصى هيكل قبل أن يكون مسجداً، إلى أن جاء التصدي البطولي لاقتحام 28 رمضان ليحبط المسعى ويكسر الوهم، واليوم هذا الوهم يتجدد وينتظر من يبدده.
خامساً: إحياء طبقة الكهنة: أخيراً لا بد أن ندرك معنى اللباس الأبيض حين نراه يُفرض في الأقصى، فهذا "لباس التوبة" بحسب الوصف التوراتي، وترتديه "طبقة الكهنة" التي يفترض أن تقود الطقوس الدينية التوراتية في الأقصى باعتباره قد بات "هيكلاً" في عين أولئك الصهاينة من الناحية المعنوية إن لم تكن المادية، أي أنه ومع فارق التشبيه محاولة تثبيت وجود "أئمة" للطقوس اليهودية إلى جانب أئمة الصلاة في الأقصى، وقد سبق أن مرّ إدخال هذا اللباس عدة مرات دون أن يحظى بالرد الذي يستحق.
قد يبادر البعض للقول إن هذا يحصل كل عام ولا يصل للأقصى، لكنهم يخطؤون بفهم وتصوير هذا التكرار وكأنه تقليد ثابت، في حين أنه تكرار مستجد ومتصاعد يتطلع لأن ينتهي بالنفاذ إلى الأقصى، وتبسيط خطره والتهاون معه ليس إلا مساعدة له ليكبر ويكتمل ويصل إلى مبتغاه؛ فهل ننتظر؟! أم نتحرك لنصرة أقصانا قبل فوات الأوان؟