أربعة عشر قتيلاً، وعدد أكبر من الجرحى والمصابين هي حصيلة العمليات المتلاحقة التي وقعت داخل أراضي 1948، وآخرها التي وقعت في شارع «ديزنغوف»، الشارع الأهم في تل أبيب.
لم تعرف إسرائيل مثل هذا العدد من القتلى والجرحى، خلال كل من الحروب التي شنتها على قطاع غزة، ولذلك فإن الأرقام تشكل قلقاً عميقاً لدى المستويات السياسية والأمنية الإسرائيلية.
تبدو المستويات السياسية والأمنية الإسرائيلية في حالة ذهول وشلل إزاء حجم ونوع الاختراقات الأمنية التي أصابت المؤسسة بكل أذرعها، والتي فشلت في هذا التحدّي، بالرغم من كل إجراءاتها الأمنية الواسعة والشديدة.
من اللافت للنظر، أن يقع بعض هذه العمليات، من قبل مقاومين فلسطينيين من شمال الضفة، وتحديداً من جنين التي اختصتها القوات الإسرائيلية العام 2002، خلال حملة «السور الواقي» بكثير من التركيز والحشد لإطفاء جذوة المقاومة.
ولكن لماذا يخرج هؤلاء المقاومون من جنين لينفذوا عملياتهم داخل أراضي 1948، وتجاوز الكثير من الحواجز والعقبات، طالما أن بإمكانهم القيام بمثل هذه العمليات في الضفة؟
ثمة دلالة بالتأكيد إزاء الدوافع التي تقف وراء تحديد الأهداف والأماكن، ما يعني أن هذه الدوافع تقف خلفها رؤية عميقة لطبيعة الصراع وآفاقه.
من يذهب بقدميه للقيام بمثل هذه العمليات، وفي النطاق الجغرافي الذي وقعت فيه، لا يفكر بالبطولة، وهو يعرف بالتأكيد أنه ذاهب إلى الشهادة، كما لا يستدعي الانتقام إن كان واحداً من الدوافع، بأن يغادر المقاوم بيئته، التي تشكل حاضنة مناسبة قد تترك له فرصة لمواصلة الحياة.
وبصرف النظر عن كل ذلك وعن دافع التحدي الذي قد يقف خلف هذه العمليات، فإن الأمر يذهب إلى ما هو أبعد، بما يلخص اتجاهات تطور الصراع الذي يعيد الأمور إلى بداياتها، من حيث أنه صراع شامل على الوجود، وعلى الحقوق التاريخية.
لا ينتظر أحد من القيادة السياسية الرسمية أن تعترف بمثل هذه الحقيقة، وذلك لأسباب تتصل بالتكتيك السياسي، والحاجة لمخاطبة المجتمع الدولي بلغة القانون، وقرارات المؤسسات وخطاب الضحية التي تبحث عن السلام، والحقوق ولو بحدّها الأدنى.
إذا كانت الضرورة تُحتّم على القيادة السياسية أن تواصل تأكيدها على خطاب السلام، والحقوق بحدّها الأدنى، استناداً للقانون الدولي، فإن ذلك لا يعني أن أي فلسطيني بما في ذلك القيادة السياسية، يتغافل عن حقيقة مآلات الصراع، وطبيعة المخططات التوسعية الإسرائيلية التي تشمل كل أرض فلسطين التاريخية.
كان البعض قد توقع، وعلى نحوٍ موضوعيّ أن تبادر إسرائيل إلى شن حملة «سور واقٍ ـ اثنين»، إن لم يكن على نحوٍ شامل فعلى الأقل، على مدينة جنين ومخيمها. لكن الأمر خارج حسابات مؤسسة القرار الإسرائيلي على الأقل في هذه الفترة.
تكتفي إسرائيل بالقيام بحملة فاشلة أخرى بهدف اعتقال والد وأفراد أسرة الشهيد رعد، لكنها اضطرت للانسحاب، من دون تحقيق الهدف، ليس بسبب المواجهة التي خاضها المقاومون في المخيم، والتي كبّدت القوات المهاجمة عدداً من الإصابات.
تخشى إسرائيل أن تشنّ حملةً واسعةً على جنين ومخيمها بالرغم من أنها تمتلك الإمكانيات لذلك، حتى لو دفعت ثمناً، وذلك لأسباب عدة.
أوّل هذه الأسباب، أن ثمة حكومة ضعيفة، هشّة، آيلة للسقوط في إسرائيل، ومعارضة تتربص بها لإسقاطها، خصوصاً بعد انسحاب نائبة في الكنيست من حزب رئيس الحكومة.
لا تستطيع هذه الحكومة أن تحتمل تصعيد الأوضاع، حتى لا يؤدي ذلك إلى توسع دائرة المواجهة بما يشمل كل الضفة الغربية بما في ذلك القدس، وقطاع غزة، الذي ستبادر الفصائل هناك، إلى الانخراط في الردّ، لو أن إسرائيل أقدمت على ذلك.
مثل هذا التصعيد من قبل إسرائيل، قد يؤدي، أيضاً، إلى تصعيد المواجهة والعمليات داخل أراضي 48، حيث تصل حالة الاحتقان مستويات غير مسبوقة بسبب السياسات العنصرية الإسرائيلية التي تمارس بحق الفلسطينيين.
ثاني هذه الأسباب، يكمن في الصورة التي تقدمها إسرائيل لنفسها أمام «دول التطبيع العربي»، ما سيعرقل توجهاتها ويؤثر سلبياً على علاقاتها، لأن المواجهة الشاملة ستقدم إسرائيل على حقيقتها كدولة احتلال، وعنصرية، وهشّة من الداخل.
ثالث هذه الأسباب، أن إسرائيل لا ترغب وليس من مصلحتها، أن تستقطب أنظار واهتمام المجتمع الدولي، إلى الصراع في هذه المنطقة فيما يتركز الاهتمام على الحرب في أوكرانيا.
سيكون محرجاً لإسرائيل وحلفائها الغربيين، أن تقدم نفسها على حقيقتها كدولة احتلال، تمارس العنصرية، وتنتهك كل القوانين الدولية ما يشكل أزمة أخلاقية لحلفائها، الذين يخوضون حرباً ضروساً تحت عناوين القانون الدولي وحقوق الإنسان والاحتلال في أوكرانيا.
لذلك، تواصل إسرائيل، التمسك بـ»التسهيلات» التي تقدمها للفلسطينيين في الضفة وغزة، بما سمح لأوّل مرّة منذ وقتٍ طويل بوصول نحو ثمانين ألف مصلٍّ إلى المسجد الأقصى.
هي ليست سياسة سحب ذرائع فقط، لخلق ظروف وأسباب للقيام بتصعيد شامل، وإنما هي سياسة الضعيف، الذي يجعل إسرائيل تكتفي بمعاقبة سكان جنين فقط، ما سيتسبب للحكومة الإسرائيلية بمزيد من النقد، وإضعاف شعبيتها، بعد أن اتضح عجزها عن حماية أمنها الداخلي.
ربّما هي من المرّات القليلة التي تظهر فيها إسرائيل في موقع رد الفعل، وفقد السيطرة، وحيث المبادرة في يد المقاومين الفلسطينيين.