في آذار/ مارس 1919، أطلق فلسطينيون الرصاص على قوات بريطانية كانت تسعى بالقوّة والرصاص لتفريق مظاهرة عزلاء في القدس. منذ ذلك التاريخ، أي منذ وقت مبكر من بعد وقوع الانتداب البريطاني على فلسطين، وتمييز فلسطين بسياسات استعمارية تختلف عن جاراتها العربية، الشامية خاصة منها، التي وقعت تحت اقتسام المنتصرين في الحرب العالمية الأولى.. منذ ذلك التاريخ لم يهدأ الشعب الفلسطيني.
مرّت مراحل، أربكت الفلسطينيين، لعمقها التاريخي، وحدّتها البالغة في وقوع فعلها على الفلسطينيين، كما في نكبة العام 1948، التي أسلمت فيها هزيمة الجيوش العربية أكثر فلسطين للمليشيات الصهيونية، وخروج الثورة الفلسطينية من بيروت عام 1982، وتأسيس السلطة الفلسطينية وبدء دخولها قطاع غزّة والضفة الغربية عام 1994، وذلك على أساس توقيع اتفاقية أوسلو، وما سُمّي بالانقسام الفلسطيني عام 2007.
بعض تلك الأحداث بالرغم من وقعها الهائل وأثرها العميق في التاريخ الفلسطيني، كهزيمة العام 1967، لم يكن عامل شلّ لإرادة الفلسطينيين، كالهزيمة المذكورة، فوجود قوى منظمة تتبنى مبدأ الكفاح المسلح، على صغرها ومحدوديتها حينها، سمح لها، في لحظة تاريخية خاصة، بالعبور من هزيمة الأنظمة العربية، إلى تسيّد المشهد، والتحوّل إلى قوّة إقليمية ذات شأن وأثر لفترة من الزمن، كما أنّ بعضها لم تكن مفاعيله في إحباط الفلسطينيين ذات قدرة كاملة، كالخروج من الأردن بعد أحداث أيلول 1970 ـ 1971، لانتقال قوى الثورة المنظمة إلى لبنان.
وتأسيس السلطة الفلسطينية لم يمنع بالكامل قدرة فصائل المقاومة الإسلامية من تنفيذ سلسلة عمليات كبيرة في تسعينيات القرن الماضي، كما أنّ وجود بنية للمقاومة في قطاع غزّة مؤسسة على انتفاضة الأقصى، سمح باستمرار المقاومة من داخل القطاع؛ بما أوجد توازنا نسبيّا في المشهد الفلسطيني الداخلي، بعد أن تعرضت الضفة الغربية لعمليات تجريف شاملة وجذرية، من عملية "السور الواقي" العام 2002، إلى ما دعي بالانقسام في 2007. والفضل في ذلك كما يظهر لوجود قوى منظمة تملك قدرا من الجهوزية والرؤية.
الشاهد أن الفلسطينيين لم يكفّوا عن الكفاح منذ أكثر من مئة عام، بالرغم من الظروف القاهرة، فبلا سابق خبرة تنظيمية أو سياسية بدؤوا سريعا يتلمّسون طريقهم لمواجة الانتداب البريطاني الممهد للاستعمار الصهيوني، وبالرغم من المحطات الثقيلة التي ألقت الحيرة والارتباك على صفوفهم، ومن الطبيعة الجغرافية والطبوغرافية غير المواتية كفاية في فلسطين، والعدد البشري المحدود، ومن الظروف الإقليمية والدولية المعاندة، ومن عقود من انكشاف الظهر، لم يتوقف الكفاح الفلسطيني، الذي أخذ أشكالا متعددة، وتجلّى في أنماط تتكيّف مع الوقائع الفلسطينية شديدة التغير.
الفعل الكفاحي للفلسطينيين، هو الإنجاز الأهم لهم، فهو الذي بلور شخصيتهم الوطنية في مواجهة السردية الصهيونية. وإذا كان قد ساهم في الماضي، إلى جانب عوامل أخرى، في منع التمدد الصهيوني في المنطقة والعالم، فإنّه يشتغل اليوم على صدّ مخططات تصفية القضية الفلسطينية نهائيّا، وكسر موجات التطبيع المحمومة، وإفشال مشاريع التحالف العربي الإسرائيلي وتكريس "إسرائيل" زعيمة للمنطقة.
فمن الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 ـ 1939، إلى المساهمة في حرب العام 1948، إلى العودة في العام 1955 لتنظيم الجهود لمقاومة الاستعمار الصهيوني، وظهور الخلايا المسلحة في قطاع غزّة، لاسيما بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، إلى بدء التشكل العلني للتنظيمات الفلسطينية المسلحة منذ العام 1965، لتبلغ قوى الثورة الفلسطينية أوجها، بعد هزيمة العام 1967، وبعد معركة الكرامة 1968، ثم العودة لتنظيم صفوف الثورة في لبنان في سبعينيات القرن الماضي، وصولاً للانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وظهور قوى المقاومة الإسلامية التي مثّلت ضرورة تاريخية لمواجهة سياسات التراجع لقيادة منظمة التحرير، وما تلا ذلك من تاريخ كفاحي قريب، كالانتفاضة الفلسطينية الثانية 2000، وصولاً لسلسلة حروب المقاومة في قطاع غزّة، وأخيرا الحالة الكفاحية الجارية الآن في الضفة الغربية.
هذا العرض المحدود للغاية للتاريخ الكفاحي للفلسطينيين، يظهر جملة من الموضوعات التي ينبغي الوقوف عليها، منها:
أولا ـ أهمية التنظيم للإمساك بالأحداث، واستعادة التوازن، وامتلاك القدرة على الفعل، فالتنظيم وحده الذي حال دون الانهيار الكامل في بعض المحطات، كما سبق عرضه أعلاه، وهو وحده الذي مكّن الفلسطينيين من تطوير هبّاتهم الشعبية كما في الانتفاضتين الأولى والثانية، وغيابه اليوم عن الساحة في الضفة الغربية والقدس، من حيث التعافي والجهوزية الكافية، بسبب عمليات التفكيك والتجريف التي تعرض لها منذ العام 2002 مرورا بالعام 2007، من عوامل انحسار الهبّات المتتالية، وإن لم يكن العامل الوحيد.
ثانيا ـ أنّ الكفاح، بات جزءا من مضامين الشخصية الفلسطينية، التي لا يمكنها الكفّ عن الفاعلية الكفاحية لفترات متطاولة، مهما كانت العقبات ضخمة في طريقها، وهو ما يوجِب، أخذ الحالات والحوادث الكفاحية المتجددة في هذا السياق، وأخذ هذه القضية من ضمن أدوات تحليل الواقع الفلسطيني، ومحاولة استشراف مستقبلة، وتظهر بذلك، أهمية العامل الذاتي في التدافع لصياغة التاريخ.
ثالثا ـ ذلك بالرغم من أنّ الفلسطيني هو الطرف الأضعف في المعادلة برمّتها، ومن بين عناصرها كلّها، سواء في معاندة الظروف الطبيعية؛ الجغرافيا والطبوغرافيا وعدد السكان، أم التفوق الاستعماري الصهيوني الذي ظلّ يتزوّد بأسباب القوّة الكاسحة باطّراد، أم في كون العالم يقف في ظهر الصهيوني، وفي كون الموقف العربي ظل يتسم بالارتباك مرورا بمرحلة تآكل الدعم العربي وصولا إلى مرحلة تحالف استراتيجي يجمع الصهيوني ببعض الدول العربية مع موقف عاجز أو متواطئ من بقية النظام العربي، وهو ما يحيل مجددا إلى أهمية العامل الذاتي، وعدم التسليم لشروط القوّة في الواقع، وأن الواقعية قد تعني المقاومة والمواجهة لا العكس.
رابعا ـ يدفع تجذر البعد الكفاحي في الشخصية الفلسطينية إلى تكييف الفلسطينيين نضالهم مع الوقائع الصلبة المعاندة لهم، فمن هزيمة في الداخل إلى ثورة لاجئين مسلحة خارج الأرض المحتلة، ومن هزيمة للثورة في الخارج إلى انتفاضة شعبية في الداخل، وما بين الانتفاضة الأولى الشعبية والثانية المسلحة كانت عمليات للمقاومة لم تسلّم لمشروع أوسلو ووقائعه على الأرض، وفي حين أخذ قطاع غزّة طابعه الخاص من بعد العام 2007، بدأت تتعدّد أنماط المقاومة في الضفّة الغربية والقدس بما يتكيف مع الشروط الموضوعية الصعبة (تفوق إسرائيلي غير مسبوق في الضبط والسيطرة والمراقبة، وضعف الجهوزية التنظيمية، والموقف المناوئ للسلطة الفلسطينية من قضية المواجهة)، مما يعني أن الفعل الذاتي في الجماهير أطلق محاولة التعويض عن الفعل التنظيمي الذي يشكّل جزءا من الحالة الجارية لا الحالة كلّها، ويبقى تعافيه، وقدرته بدوره على التكيّف مع هذه الوقائع، من ضرورات تطوير هذه الحالة.
خامسا ـ هذا الفعل الكفاحي للفلسطينيين، هو الإنجاز الأهم لهم، فهو الذي بلور شخصيتهم الوطنية في مواجهة السردية الصهيونية. وإذا كان قد ساهم في الماضي، إلى جانب عوامل أخرى، في منع التمدد الصهيوني في المنطقة والعالم، فإنّه يشتغل اليوم على صدّ مخططات تصفية القضية الفلسطينية نهائيّا، وكسر موجات التطبيع المحمومة، وإفشال مشاريع التحالف العربي الإسرائيلي وتكريس "إسرائيل" زعيمة للمنطقة، وإذا كانت كلفة هذا الكفاح عالية، فإنها أقلّ كلفة بكثير من سياسات البطالة الكفاحية؛ التي وفّرت للاحتلال بوابة التمدّد الاستعماري الصهيوني في الداخل، وتطبيعه مع الخارج العربي والدولي، فالثمن المدفوع من البطالة الكفاحية هو إلغاء الوجود، بينما أثمان الكفاح معقولة بالنظر إلى جسامة المهمة المطلوبة منه.