شبكة قدس الإخبارية

3 إصابات في جسده ومعاناة 10 سنوات في الاعتقال

الشهيد أحمد الأطرش... بطل "المولوتوف" في الخليل

277550683_712081543156528_7213408181958326569_n
يحيى موسى

الخليل - خاص قُدس الإخبارية: أطل على شقيقته أماني كبدرٍ اكتملت استدارته وتوهج نوره، لم تره بهذا الضياء من قبل لتمازحه عصر أمس الجمعة "شايفة وجهك؛ نور بيطلع منه!" قابل كلامها شقيقها أحمد الأطرش (29 عامًا) بضحكةٍ صافية؛ لم تكف لفك شيفرة تساؤلاتها، لتجيب هي على نفسها "يمكن فيك اشي، أو عشانك بتصلي الفجر بالمسجد" فابتسم مرة أخرى.

هذه المرة بادلها السؤال "انتِ بتشوفي شهداء في نومك!؟"، لتقف عاجزةً عن الرد قليلاً، ثم عادت أحبالها الصوتية للحركة "لا!؟" فأزاح لشقيقته - التي كانت أمًا ثانية له بعد وفاة والدته حينما كان طفلا لم يزد عمره عن ثلاثة عشر عامًا- الستار عما يراه في المنام "منذ ثلاث ليالٍ أرى صديقًا شهيدًا يأتيني، وأسأله نفس السؤال: كيف النوم في القبر!".

قبل الحوار الذي دار بين الشقيقين، تناول الأخوة الأربعة طعام الغداء، وقتها طلب أحمد من شقيقتيه عدم إعداد الغداء فجلبه جاهزًا من أحد المطاعم القريبة من منطقة سكنهم بالبلدة القديمة بمحافظة الخليل.

جلس الجميع على مائدة الوداع التي أرسل أحمد اشاراتها دون أن يدري هو أنه يحزم بعد لحظات حقائب الرحيل، ثم خلدوا إلى القيلولة إلا هو، عندما علم بوجود مواجهات بين الشبان وقوات الاحتلال المقتحمة؛ ليطلب من شقيقه أن يستعير وشاحه الأسمر عندما لم يعثر أحمد على وشاحه الخاص ووضع على رأسه القبلة الأخيرة " بجوز ما أرجع .. حاسس حالي مش راجع" فمازحه شقيقه وهو ينظر إليه بنصف عين أثناء غفوته "وين حتروح إذا مش راح ترجع للبيت".

الملثم البطل

تروي شقيقته الكبرى فداء الأطرش لـ "شبكة قدس" تفاصيل استشهاده ومعرفتهم به، ناقلة عن شهود عيان "كان يشارك بالمواجهات الشعبية للتصدي لقوات الاحتلال، وهو ملثم الوجه فأطلق قناصة الاحتلال رصاصة مباشرة على رأسه بهدف قتله حتى أن إعلام الاحتلال نشر أنه قام بتصفيته (..) نحتسبه عند الله شهيدًا فما فعله أخي بجيش الاحتلال ومستوطنيه بالخليل من خلال المولوتوف أرعبهم ودوخهم، حتى أن اعتقاله الأخير لمدة ست سنوات كان بهدف الاستراحة منه".

أشقاء أحمد الذين يزيدون عن عشرة، عاش كل واحد منهم قصة مختلفة في استقبال الخبر الصادم، "شقيقتي أماني أيقظها قرع الجيران للباب البيت وأفزعوها من نومها وتقلت الخبر دفعة واحدة: "أخوك استشهد"، وأنا تلقيت اتصالاً هاتفيًا يخبرني باستشهاد أخي، ابن أختي الأخرى رأى صورته على وسائل الإعلام وأخبر والدته باستشهاده، أما أخي محمد وهو صحفي، كان على وشك الانطلاق برحلة عائلية لمدينة أريحا قبل أن يرسل زملاؤه صورة شقيقه لزوجته للتعرف عليه ويمهدوا الخبر إليه لتقليل أثر الصدمة".

حمل المشيعون أحمد، وعادوا به إلى المنزل يرددون "يا أم الشهيد نيالك .. ياريت أمي بدالك" وهذا الشعار لا تخلو منه جنازة جميع الشهداء، لكن كلماتها تغيرت هذه المرة بعدما علم المشيعون أنه فقد والدته وهو طفلٌ صغير، فرددوا "يا أم الشهيد نيالك .. هي أحمد أجالك"، لتنال لقب أم الشهيد وهي في قبرها.

وضع المشيعون أحمد وهو مسجىً بدمائه ومتوشحًا بعصبة "كتائب القسام" وهي عصبة وراية لطالما توشح بها العديد من شهداء عائلته الممتدة في مقارعة الاحتلال، تأملت أخته فداء ابتسامته التي توقف عندها الزمن والتصقت بملامحه، أمسكته من رأسه الذي ارتخى على يديها في سلامٍ وبللت دماؤه كفة يدها، لتصدح كلماتها وهي ترفع يديها للأعلى: "هذا الدم الطاهر .. هذا الدم اللي بده إياه الوطن".

صوت الفخر ينبعث من حنجرة شقيقته فداء " لقد تربينا على حب وعشق الوطن، كان إيمان أحمد قويًا، حافظ للقرآن الكريم، لا يفوت صلاة الجماعة حتى ولو مع رجلٍ واحد، وكان دائمًا يلح علينا نحن شقيقاته التسع بعبارة مشهورة "ادعولي أموت موتة يحبها الله ورسوله" ويقصد الشهادة، والله أعلم بصدق نيته فأعطاه إياها، وربما أصفه بكلمتين: النقي التقي ".

فلسطين في قلبه

تعرض شقيقته جانبًا من بطولة أحمد مما عرفته عنه، موقنةً أن ما تجهله أكبر بكثير "بواسطة زجاجات المولوتوف دوَّخ أحمد جيش الاحتلال، هو شخص عنيد، جريء، شجاع، كان يباغت جيش الاحتلال في مناطق لا يتجرأ أحد غيره الدخول إليها، كان خفيف الحركة يضرب المولوتوف ثم يعود لينام في فراشه بعدما يتنقل من فوق أسطح البلدة القديمة، ويكون قد دب الرعب وحرك خلفه قوات عسكرية كبيرة تبحث عن ملقي الزجاجات الحارقة تلك، وكأنَّه خاض لوحده معركة عبر سنوات طويلة انتهت فصولها بالأمس أذكر أنه في احدى المرات حرق نقطة عسكرية كاملة".

أحمد الذي حمل فلسطين في قلبه، كان يضع تحت وسادته علم فلسطين موشحًا بالكوفية، والقرآن الكريم رفيق دربه داخل وخارج سجون الاحتلال التي أكلت من عمره عشر سنوات، وصورة أمه التي حرم من حنانها عندما كان طفلاً صغيرًا.

خلال مسيرة كفاحية طويلة، أصيب ثلاث مرات، واحدة برصاصة حيَّة بقدمه أقعدته ستة أشهرٍ وعانى منها كثيرًا، وفي وقت اعتقد جنود الاحتلال أنهم استراحوا منه، عاد إليهم أكثر شجاعةً فلم يقبل رؤية المستوطنين واليهود يدنسون "الحرم الإبراهيمي" الشريف والذي كان أحد رواده خاصة في صلاة الفجر.

أصيب أحمد برأسه وفخده برصاصتين معدنيتين مغلفتين بالمطاط، أسره الاحتلال سبع مرات ومرة واحدة اعتقل لدى أجهزة أمن السلطة لمدة شهر عندما قام بإلقاء مولوتوف على قوات الاحتلال في مواجهات حدثت بحارة "الجعبري" بالخليل وعندما أفرج عنه أسره الاحتلال لمدة ست سنوات أفرج عنه نهاية 2020، وهو نجل شقيق الشهيد أكرم الأطرش، أحد قيادات القسام في الخليل.

"حياة السجن لم تكن سهلةً وقال جيش الاحتلال بالخليل بأسره ست سنوات أنهم الآن استراحوا منه بعدما أرقهم ودوخهم وكان مثل الشبح يلاحقهم ويضربهم بالمولوتوف، كان دائمًا يقول: "أملي بربي كبير، ويمكن أروح بأي يوم مش شرط أكمل ست سنوات"، لكنه استغلها في حفظ القرآن الكريم وكان في الفترة الأخيرة يعمل على تثبيته، كان دائمًا يتذكر حياة السجن وصعوبتها " إضافة لما تقوله شقيقته، فداء على الصعيد الشخصي كان يخطط أحمد لفتح صالون تصفيف شعر للرجال (حلاقة).

طفولة وحرمان

تستذكر طفولته بعدما ألقت على روحه السلام "هي امتداد لطفولة صعبة تعرض فيها للحرمان بعد وفاة أمي بمرض السرطان عن عمر يناهز 43 عامًا، أتذكره في مراسم وداع أمي عندما وضع رأسه على جدار ويبكي على رحيلها ويتمتم "كيف حكمل حياتي بدونك يما".

وورث من أمه التي تدعى "الحسناء" حب الوطن وبقي هذا الحب يسري في شرايينه، تستحضر فداء صورًا من حياة أمها "عايشت فترة سلسلة العمليات الفدائية التي جاءت ردًا على اغتيال المهندس يحيى عياش، ومع كل عملية كانت تغلف الشوكولاتة وتوزعها على الجيران، فابن شقيقها شهيد وأبي اعتقل بالانتفاضتين الأولى والثانية واستشهد عمي أكرم القائد القسامي الكبير، فرضعنا حليب الوطنية والوطن ليس بعيدًا عنا".
عاش أحمد على نقاط التماس، يعرفه جيدًا جنود حاجز "أبو الريش" القريب من منزله، صورةً من طفولته تقفز لحديث شقيقته "اعتقل في أول مرة عندما كان عمره 14 عامًا وادعى الاحتلال أنه هاجم مستوطنًا في منطقة الحرم الإبراهيمي، فكان لديه حساسية من رؤيتهم لا يتقبل وجودهم وكان يردد دائمًا: "نحن ابتلينا بالاحتلال وواجبنا طردهم".

في فترة السجن الأطول والتي استمرت ست سنوات، لم تنقطع صلة أحمد بشقيقاته وكان يحرص في كل مرة يستطيع الاتصال بعيدًا عن عيون الاحتلال وسجانيه على الاتصال بإحداهن، تتوقف فداء عند صورة استقباله محررًا بعد غياب طويل "كانت فرحة كبيرة بأن التم شملنا فيه، واستقبلناه بحفاوة بعد غيابه عنا".

تقول شقيقته عن مرحلة بعد الإفراج عنه: "عرضنا عليه الزواج فطلب منا التريث، ثم طلبنا منه عدم الصلاة في الحرم خوفًا عليه والصلاة في مساجد المنطقة، فرض ذلك وقال إن: "الحرم أمانة حملنا إياها الله" وحمل هذه الأمانة حتى الرمق الأخير"، وكان يقول لي: "لمين نترك الحرم؟" ويتحمل صعوبات المرور بشارع الشهداء بالبلدة القديمة وحاجز "أبو الريش" لأجل ذلك".

"احنا ربنا اختارنا لنكون قد هدا الشيء والحمل اللي ربنا أعطانا إياه" عبارة أخرى تطل على حديث شقيقته يثبت من خلالها أحمد تعلقه بوطنه، تنقل عن آخر كلام قاله قبيل استشهاده، بأنه تأمل صور شهداء جنين وقال لأخوته "ما أعظم أهل جنين، أمنيتي أسكن فيها لأنهم مفخرة يقدرون الوطن".

رفض أحمد خيار التعايش مع الاحتلال، ليرسم نهجًا سبقه إليه شهداء عبقوا طريق الحرية برائحة العزة والكرامة، ليذكر الاحتلال أن لا وجود له على أرض فلسطين، طالما هناك أمثال أحمد يتنفسون على أرض فلسطين وهم كثرٌ يتواجدون في كل نقاط التماس.

#الخليل #أحمد الأطرش