شبكة قدس الإخبارية

صاروخ الاحتلال كان أسرع من وصول جرعة الحليب لطفلها الرضيع

الصحفية "دعاء شرف" .. لم يعد المساء ملونًا

ط
يحيى اليعقوبي

غزة - خاص قدس الإخبارية: بعد أكثر من ساعتين من البحث والتجوال مع اقتراب حلول المساء يوم السادس والعشرين من أكتوبر، تشرين أول 2023 غمرت الفرحة قلب الصحفي محمود هنية عندما عثر على علبة حليب أطفال في إحدى الصيدليات إثر نفاد آخر جرعة حليب لطفله البكر عبيدة (عام وأربعة أشهر) فعاد بخطوات متسارعة ترسم ملامحه ابتسامة فرح أنه وفر غذاء طفله عله يتوقف عن البكاء.

لم تدم تلك الفرحة المؤقتة عندما وقعت غارات متتالية أعقبها أصوات انفجارات كبيرة وكأنه زلزال ارتجت بفعله الأرض من تحت أقدامه فتصاعد الدخان من ذات المنطقة التي نزحت إليها زوجته الصحفية دعاء شرف وتقتن فيه عائلتها بمنطقة شارع "اليرموك" بمدينة غزة، أيقن أن شيئا ما حدث بالمكان.

تلاشت تلك الابتسامة التي ظفرت بها ملامح هنية من أنياب أيام حزن وألم على حال أهالي القطاع، واحتل القلق مكانها وتسارعت خطواته نحو المكان الذي وصله خلال عدة دقائق، ليقف أمام دمار لم يره طيلة حياته، إذ سويت العمارة السكنية لأهل زوجته بالأرض ودمرت طائرات الاحتلال كامل الحي بمنازله المحيطة.

بين صورة للحي طبعتها ذاكرته قبل خروجه للصيدالية تعج بحركة الناس والحياة رغم العدوان، لمشهد دمار واسع يشابه ما تحدثه الزلازل كان هنية ينظر للمكان بصدمة وهو يحمل علبة الحليب تتوزع نظراته على أبنية منهارة ودخان لا زال يتصاعد وكأنَّ الحي دفن بالأرض في مجزرة نتج عنها استشهاد أكثر من 300 شهيد عرفت باسم مجزرة "شارع اليرموك".

أمل ضئيل

بأملٍ ضئيل بدأ بالبحث عن طفله الرضيع وزوجته الصحفية اللذين كانا في عمارة سكنية مكونة من ثمانية طوابق تمتد على دونم سويت بالأرض ولم يعد لها أي ملامح كما لم يعد لطفله وزوجته أي ملامح أيضًا بسبب الردم الهائل، كان يحاول أحد الجيران التهوين عليه وهو يربت على كتفه: "يمكن تلاقي حدا عايش".

بعد تسعة أيام من البحث وإزالة الأنقاض استطاع هنية إخراج أشلاء طفله زوجته وواجه صعوبة كبيرة في التعرف عليهما بسبب ما أحدثته الصواريخ الإسرائيلية بملامحهم، كان المشهد ثقيلا على نبرات صوته حينما حاول استحضار تفاصيله: "استشهد مع زوجتي 55 فردا من عائلتها التي مسحت بالكامل كانت زوجتي لحظة القصف تحتضن طفلي".

نزح هنية وزوجته من حي "تل الهوا" جنوب مدينة غزة إلى وسطها في منطقة كان يعتقد أنها آمنة، يربط على جرح قلبه بكلمات صابرة استهل بها حديثه مع شبكة "قدس" قائلا: "كان القصف أشبه بزلزال، لم يكن عاديا فعلى العالم أن يكشف عن حجم ونوعية القنابل المستخدمة، فعندما وصلت المكان لم أر سوى أن الحي أبيد بالكامل"

يسكن الحزن بين نبرات صوته "كنت أسأل نفسي ما هو الهدف الذي يستحق أن يطلق عليه الاحتلال كل هذه الصواريخ، فهل كان عبيدة ونحو 300 مدني يستحقون أن يلقى عليهم هذا الكم الكبير من المتفجرات".

يحاول لملمة آخر المشاهد له في غزة قبل النزوح مع عائلته لمحافظة رفح "رفضت الخروج قبل أن أخرج جثمان طفلي وزوجتي، وعلى مدار تسعة أيام وبمساعدة رجال الدفاع المدني وبعد حفر طويل في الليل والنهار وإزالة الركام أخرجت أشلاء طفلي وكان في حضن أمه وبعض أفراد عائلتها وواريناهم الثرى فأيقنت حينها أن هدف الاحتلال كان الأطفال والنساء فقط".

لم يستطع هنية التعرف على أشلاء طفله إلا من بعض العلامات كملابسه الداخلية ونوع الحافظات التي كان يستخدمها، عازيا السبب " لاستخدام الاحتلال أسلحة تعمل على تشويه أجساد الشهداء وتقطعيهم".

جرائم في الطريق

بعد فقده لزوجته وطفله وأمام بشاعة المجازر نزح هنية مع والديه وأشقائه إلى محافظة رفح، في ذلك الطريق الذي وصفه الاحتلال بـ "الممر الآمن" شاهد جرائم أمام ناظريه، تتحرك أمامه وهو يجلس على كرسي بلاستيكي داخل ساحة أحد مراكز الإيواء بمحافظة رفح لحظة لقائنا به: "أعدموا رجلا أمامنا وأمام أطفاله بينما كان يسير، وسط صراخ وعويل النساء زوجته التي حاولت أن تجثوا بقربه فقال له الجندي من مكبرات الصوت: "امشِ وإلا بطخك" وبدأ الناس بسحبها مع تأكد استشهاده.

يجمع شتات ما تبقى من مشاهد "في طريق النزوح مشيا على الأقدام لعدة كيلومترات، سألت أبي الذي عاصر النكبة وأصبح عمره الآن 79 عامًا: هل رأيت شيئا يذكرك بتلك الأحداث؟ فقال لي وهو يرى أجساد الشهداء على جانبي الطريق: "كأنني أعيش النكبة أول مرة في حياتي، فكل أحداث عام 1948 بكل أوجاعها لم يتم إطلاق النار علينا ولم تسقط القنابل فوق رؤوسنا".

خلف "ميكرفون" الإذاعة، ومع حلول ساعات المساء يوميًا كانت الصحفية الشابة دعاء شرف تطل على المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة عبر البرنامج الإذاعي المتخصص "مساء ملون" يتعلق بتقديم نصائح تحفز الناس للإقبال على الحياة، ولم تدرك أنه في مساء 26 أكتوبر/ تشرين أول 2023 سيكون مساؤها ملونًا بالدم وستواجه عقبات أكبر من أن يواجهها أحد.

لطالما كانت شرف تطل على جمهورها لتقدم نصائح في تجاوز العقبات في الحياة وتقدم نصائح تجعل المستمعين يقبلون على الحياة بكل حب وشغف وإصرار على تحقيق الأهداف ولكنها لم تدرك أن الحياة ستواجه بأبشع آلية عرفها التاريخ، وأن ذاك المساء سيلون بالدم وسيغمس بالحزن والسواد وستصبح عجلة الحياة متوقفة.

مع اشتداد القصف الإسرائيلي في أيام الحرب الأولى أصيب طفلها "عبيدة" بالاختناق مكثت على إثره يوما كاملا بالمشفى، ولم يفارق الطفل حضن والدته نتيجة خوفها عليه فتفرغت لرعايته مع عدم قدرتها على مواصلة عملها، لدرجة أن هذه الالتصاق كان يثير استغراب زوجها الصحفي محمود هنية ويطلب منها أن تستريح، تطرق كلماتها أبواب ذاكرته "عبيدة روحي بموت بدونه".

حلم لم يكتمل

جمعت مهنة الصحافة شرف وهنية تحت سقف منزل واحد، كما جمعتهم مؤتمرات صحفية وورش عمل ولقاءات وندوات كان يغطيانها قبل ارتباطهما، كما أنهما أصبحا عضوين في مجلس إدارة كتلة الصحفي الفلسطيني، وكانا يساندان بعضهما في تبادل الأرقام والخبرات فضلا عن التشاور المستمر بينهما في أفكار كانا يتناولانها في موادهما الإعلامية.

قبل شهرين من العدوان نشر هنية منشورا على صفحته عبر "فيسبوك" يحتفي فيه بذكرى زواجهما الثانية التي تكللت بفرحة تزينت بطفلهما الأول، ولم يدرك أن هذا الارتباط الأسري سيهدم بفعل القصف الإسرائيلي الذي فرق عائلة صحفية.

يصف هنية، زوجته بأنها "كانت موهوبة في التقديم الإذاعي وكانت تطمح أن تدخل عالم التقديم المرئي لتنقل الحدث والقصة بصورة ملونة متحركة للجمهور، كما كانت تقدم عرافة الاحتفالات والمؤتمرات وبدأ اسمها يلمع في سماء الإعلام الفلسطيني".

حتى يومها الأخير كانت شرف تنتظر أي خبر عن الهدنة، يتوقف فيها صوت الصواريخ، يطل صوتها على حديث زوجها: "كانت تبكي في ذلك اليوم فلم تعد تحتمل القصف الشديد والمتواصل.

بعينين محمرتين يحيط بهما الحزن يرثي هنية زوجته وطفله "عشنا الحياة بحلوها ومرها وتفاصيلها. كانت دعاء طيبة القلب، وصحفية ناشطة ملأ عبيدة قلبها حبا وشغفا، آخر اتصال كانت تسألني في اليوم الأخير: "في هدنة؟" وهذا السؤال كانت تكرره كثيرا، وكانت تبكي من هول القصف المتواصل، خاصة أنها رفضت النزوح وكانت تعلل سبب رفضها "وين بدنا نروح. نهرب من موت إلى موت" فعلى مثلها تبكِ البواكي".

قتلت (إسرائيل) الصحفية شرف في أوج مسيرتها الإعلامية التي لم تكتمل، وبقيت كل حلقات برامجها المسجلة تذكر المجتمع الدولي بطموح إعلامية اختارت لونا مميزا من ألوان الصحافة قدمته بقالب اجتماعي حظي بانتشار واسع كانت تطل به كل مساء على المستمعين الذين كانوا ينتظرون اطلالتها، ليتوقف الصوت وتنتهي المسيرة الإعلامية التي حمل زوجها أمانة نقلها.