لا شيء يلخّص ما يجري في المشهد الفلسطيني منذ شهور، سوى القول إنه السعي الدؤوب من أجل منع اندلاع انتفاضة جديدة في الضفة الغربية؛ يدركون أن القدس هي المرشّحة لتفجيرها بسبب حساسية الموقف فيها.
إنها الانتفاضة التي يعتقدون أنها ستهيل التراب على مشروع تصفية القضية عبر "سلام اقتصادي"، وستخرّب على الأجواء التي تريدها أمريكا لوضع القضية على رفّ النسيان، من أجل التفرّغ لتحديات أهمْ.
هم يتذكّرون بكل تأكيد "انتفاضة القدس" الأخيرة، ومعها معركة "سيف القدس" التي تمّ تضييع فرص استثمارها من قبل الجميع، بما في ذلك "حماس" التي تصدّرتها.
لا يحتاج المرء لكثير من الذكاء كي يدرك هذه الحقيقة المتعلقة باتفاق أركان الاحتلال، بجانب داعميه الذين تتصدّرهم أمريكا وأوروبا، ومعهم المتعاونون من مقاولي التطبيع (جماعة أبراهام)، وكذلك من سبقهم.. اتفاقهم جميعا على بذل كل جهد ممكن لمنع اندلاع الانتفاضة.
والحال أن هؤلاء جميعا يدركون أن العنصر الأكثر فاعلية في منع اندلاع الانتفاضة؛ أو محاصرتها إذا اندلعت، هي سلطة العار في رام الله، ولذلك يتم دعمها بما تيسر من أدوات كي تتمكّن من تحقيق ذلك.
لا يحتاج المرء إلى كثير من المراقبة كي يرى ذلك، فالسلطة تحصل على بضع مئات من تصاريح "لمِّ الشمل" لبعض من يقيمون بطريق "غير قانونية"؛ وفق قوانين الاحتلال، وهي قصة سخيفة بالطبع، لكن السلطة تبيعها كإنجاز وطني، مع أن المعنيين مقيمون أصلا، وخسروا "هوية الاحتلال" بسبب غيابهم في الخارج لمدة أطول من المسموح به.
منذ مدة لم نعد نسمع عن حجز أموال الجمارك، ووضع السلطة الاقتصادي يبدو مريحا على نحو ما، رغم معزوفة الشكوى المتواصلة.
الأمريكان يقدمون المساعدات، وكذلك الأوروبيون، والمثير أن من يستجدي الدعم للسلطة؛ هم قادة الاحتلال في كل زياراتهم الخارجية.
اللقاءات بين قادة السلطة وقادة الاحتلال تتوالى (يتمّ تسويقها بتصريحات سخيفة لا صلة لها بمضمونها الأمني)، ومجاملات الأمريكان أيضا، بدليل تصريحات سفيرهم في القدس ضد الاستيطان، بجانب بعض التهدئة في "الشيخ جراح" وتأجيل مشاريع استيطانية مثيرة، مع الحديث عن إجراءات جديدة في شهر رمضان الذي يثير القلق أكثر من أي شهر آخر، لا سيما أن "انتفاضة القدس" الأخيرة كانت في رمضان الماضي.
منذ أسابيع، والحديث في دوائر الاحتلال لا يتوقف عن احتمالات التصعيد في رمضان، لا سيما أن العمليات الفردية، بجانب الاغتيالات والاعتقالات، ما زالت تتوالى وتتصاعد.
ولذلك تتواصل اللقاءات والمشاورات بروحية منع الانفجار بكل وسيلة ممكنة، وطبعا بالتعاون مع السلطة، وبجهد من داعميها العرب، لا سيما أن الانفجار يثير قلقهم أيضا، لجهة متاعب داخلية، وكل ذلك بجانب طلب الصهاينة والأمريكان منهم التعاون على هذا الصعيد.
الإشكال الأكبر الذي يواجه هذه الطبخة يكمن في أن كل تراجعات المحتلين لا تغيّر في حقيقة موقفهم من القدس ومن المسجد الأقصى (الهيكل بإجماعهم)، فلا أحد من قادة الاحتلال يمكنه وقف منظومة الزحف الاستيطاني والتهويدي في المدينة، وإن لجمه لبعض الوقت، كما أن أحدا منهم لا يمكن أن يغيّر في الخطاب السياسي حيالها. وحتى سفير "بايدن" في القدس، ورغم تصريحاته اللافتة ضد الاستيطان، إلا أنه أكد أنه يؤمن بأن القدس هي "العاصمة الموحّدة للكيان"، مضيفا تلك العبارة السخيفة المعروفة عن أن مصيرها يتحدّد بالمفاوضات (ليس بالقانون الدولي)!!
واللافت طبعا أن الأمر لا يتعلق فقط بالقدس، بل بعموم الموقف من الحلّ السياسي (حلّ الدولتين) الذي خرج من تداول قادة الكيان؛ حتى بات عباس يستجدي لقاء رئيس حكومة العدو، فيما يرفض الأخير، بعكس ما كان يجري طوال سنوات، منذ مفاوضات أولمرت عباس قبل 16 عاما.
هكذا يتأكد أن المعضلة الكبرى في مسيرة القضية هي عصابة رام الله، فهنا والآن يتواصل الاستيطان والتهويد، ويتواصل القتل وتتواصل الاعتقالات، وكذلك الغطرسة فيما يتعلق بالمواقف السياسية، لكن تلك العصابة تستمتع بسلطتها كأنها دولة لا ينقصها أي شيء، فيما يرتّب عباس لخلافته على نحو يضمن بقاء نهجه، كأنما يصادر المستقبل كما صادر الماضي ويصادر الحاضر.
إن استمرار هذه المعادلة، فيما تنشغل "حماس" في قطاع غزة بقضية فك الحصار ومعيشة الناس في القطاع؛ وإن لم تتوقف عن البناء العسكري، يعني أن معادلة التيه ستتواصل، وقد يتم استغلال ذلك لتكريس الانفصال العملي عن الضفة الغربية، والنتيجة هي دفع مشروع تصفية بصيغة "السلام الاقتصادي" الذي يساعد فيه التطبيع العربي الواسع. فهل يقبل العقلاء والشرفاء بذلك، أم إن الانقلاب عليه بات واجب الوقت.
ولأن ذلك سيكون مستحيلا دون عزل مشروع عباس ومحاصرته، بوصفه العنصر الأهم في المؤامرة؛ وإن خطب ضدها بالتصريحات والبيانات، فإن المسؤولية تقع على عاتق قوى المقاومة وكل الشرفاء في الساحة.
نعم، على هؤلاء أن يبادروا إلى فضح نهج عباس ومحاصرته، بجانب تفعيل الضفة الغربية (إبعاد من فشلوا في تفعيلها من قادتهم؛ ضرورة حيوية، وبالذات في "حماس"، فمن فشل خلال سنوات طويلة لن يفلح في المستقبل). وإذا لم يفعلوا فسيبقى الأمل معقودا على انتفاضة الشعب التي لا بد أن تندلع، لا سيما أن الغزاة لن يغيّروا موقفهم من القدس والأقصى ولن يوقفوا مشاريعهم؛ وإن خفّفوا سرعة تنفيذها، فيما لن يتراجع الشعب الفلسطيني أمام غطرستهم، ولن يخضع لشروط سلطة العار وسياسات قادتها المهزومين.