القرار الفوقي المفاجئ الذي اتخذه الرئيس عباس باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية دائرة من دوائر "دولة فلسطين"؛ يؤكد على أننا نتعامل مع العقلية نفسها التي تُدار بها الأمور في الشأن الفلسطيني. وهي عقلية مسكونة بالهيمنة والسيطرة، والاستفراد في مراكمة الصلاحيات وفي صناعة القرار الفلسطيني. وحتى في تنفيذ سياسات تخرق الأعراف والمواثيق الدستورية والقانونية، وتتجاهل الإرادة الشعبية الفلسطينية، وتفرغ العمل المؤسسي من محتواه.
خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، ومنذ أن عطَّل عباس المجلس التشريعي للسلطة سنة 2007، أصدر عباس منفرداً أكثر من 270 قرارا بقانون، أخذ أكثر من 200 منها صفة تشريعية؛ وهي أكثر من ضِعف ما أنجزه المجلس التشريعي الأول للسلطة في عشر سنين (1996-2006). وهو ما يمكن أن يوصف بـ"مذبحة" قانونية وتشريعية. وخلال تلك الفترة، تضخمت سلطة عباس وجهازها التنفيذي بعد أن أعاد أيضاً ترتيب الجهاز القضائي ليكون تحت نفوذه. وهذه السياسة نفسها في الاستفراد والهيمنة يمارسها في منظمة التحرير التي هو رئيسها، وفي حركة فتح التي هو رئيسها أيضاً؛ في الوقت الذي يواجه فيه متاعب صحية متراكمة بعد أن بلغ الـ86 من عمره.
هل من المعقول أن يُدار المشروع الوطني الفلسطيني، ومواجهة المشروع الصهيوني بكل ما يملك من طغيان وجبروت وغطاء قوى عالمية، بهكذا عقلية؛ فتُضرب البنى المؤسسية، وتُحيَّد طاقات الشعب الفلسطيني وإمكاناته، في الوقت الذي نحن فيه بأمسّ الحاجة لطاقة كلّ فرد فلسطيني في الداخل والخارج، بل وكل عربي ومسلم وكل أحرار العالم؟!
هل من المعقول أن يُدار المشروع الوطني الفلسطيني، ومواجهة المشروع الصهيوني بكل ما يملك من طغيان وجبروت وغطاء قوى عالمية، بهكذا عقلية؛ فتُضرب البنى المؤسسية، وتُحيَّد طاقات الشعب الفلسطيني وإمكاناته، في الوقت الذي نحن فيه بأمسّ الحاجة لطاقة كلّ فرد فلسطيني في الداخل والخارج
القرار بحدّ ذاته جاء منسجماً مع سلوك قيادة المنظمة والسلطة منذ توقيع اتفاقات أوسلو 1993، في إضعاف منظمة التحرير، وتغييبها عن التفاعل مع الشعب الفلسطيني خصوصاً في الخارج، وتعطيل مؤسساتها وإفقادها فعاليتها، ووضعها في "غرفة الإنعاش" لاستخدامها عند الحاجة لـ"ختم الشرعية". وبالتالي، فقد باتت منذ سنوات طويلة عملياً دائرة من دوائر السلطة، غير أن هذا القرار جاء ليُشرعن عملية التقزيم ويُقولبه في إطار "قانوني"؛ وليؤكد الكثير من المخاوف من أن عملية الإضعاف والتقزيم كانت عملية مقصودة وممنهجة؛ وأن حديث قيادة السلطة عن إصلاح حقيقي للمنظمة، وحوارها مع الفصائل حول ذلك كان استهلاكاً محلياً.
ومن جهة أخرى، فإن توقيت القرار الذي جاء في اليوم التالي لانتهاء أعمال المجلس المركزي للمنظمة (أي في 8 شباط/ فبراير 2022) يشير إلى أن القرار لم يكن مجرد عمل إجرائي، بل بدا وكأنه دفعٌ لفواتير وأثمان معينة، في سياق الاستحقاقات المطلوبة من قيادة السلطة والمنظمة، على أمل تحصيل بعض المكاسب في إدارة حكمها الذاتي في الضفة الغربية.
وهذا سياق يؤكده إصرار هذه القيادة على عقد المجلس المركزي واستكمال عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة، بما في ذلك إدخال حسين الشيخ في عضويتها؛ وكذلك تعيين روحي فتوح رئيساً للمجلس الوطني. وهو انعقاد تمّ بالرغم من مقاطعة قوى فلسطينية كبيرة وفاعلة، وتمثل على الأرض أكثر من نصف الشعب الفلسطيني؛ بما في ذلك أربعة فصائل وقوى من داخل منظمة التحرير بالإضافة إلى حركتَي حماس والجهاد الإسلامي.
سياق يؤكده إصرار هذه القيادة على عقد المجلس المركزي واستكمال عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة، بما في ذلك إدخال حسين الشيخ في عضويتها؛ وكذلك تعيين روحي فتوح رئيساً للمجلس الوطني. وهو انعقاد تمّ بالرغم من مقاطعة قوى فلسطينية كبيرة وفاعلة، وتمثل على الأرض أكثر من نصف الشعب الفلسطيني
القرار الذي أثار عاصفة من الاعتراضات والانتقادات من كافة الاتجاهات والتيارات الفلسطينية ومن المؤسسات الحقوقية وخبراء القانون، لم يصدر بعد في الجريدة الرسمية، وربما أريد لتسريبه أن يكون بالون اختبار، باتجاه تهيئة الشارع الفلسطيني له.
القرار وصفته جهات عديدة وخبراء متخصصون بأنه "خفة وعبث"، و"إهانة ومسخ" للمنظمة، وأنه باطل بطلاناً مطلقاً، وأنه ولد ميتاً ومنعدماً. إذ إن عباس نفسه لا يملك صلاحية إصدار القرار، واعتدى بشكل صارخ على صلاحيات السلطة التشريعية المعنية بذلك، وهي المجلس الوطني الفلسطيني؛ حتى إنه لم يسعَ لإصداره (ولو تجاوزاً) عن طريق المجلس المركزي الذي كان منعقداً قبل يوم واحد من صدور القرار.
وجاء القرار دون تبيان النص القانوني الذي استند إليه، وجاء مخالفاً للمبادئ الدستورية من حيث الاختصاص ومبررات الإصدار، كما أن الإشارة إلى الاطلاع على رأي مجلس القضاء الأعلى مخالفة صارخة للصلاحيات. غير أن الأهم هو التجاوز الخطير لمكانة منظمة التحرير باعتبارها شخصاً من أشخاص القانون الدولي العام، وأنها الممثلة للشعب الفلسطيني عربياً ودولياً. وحتى قرار الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 الذي اعترف بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة، نصّ على أن هذا الاعتراف يجب ألّا يمس حقوق منظمة التحرير المكتسبة وامتيازاتها ودورها في الأمم المتحدة، وأنها تُمثّل الشعب الفلسطيني.
منظمة التحرير هي الجهة التي أنشأت السلطة الفلسطينية، فلا يُعقل أن تتحوَّل عملياً إلى دائرة من دوائرها. وإذا كانت منظمة التحرير هي البيت المعنوي للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، والمظلّة الأكبر لكل مؤسساته؛ فإن هكذا قرار يفتقر إلى أدنى درجات المنطق؛ إلا إذا قُصد منه المضي في سياسة شطبها وإلغائها
أما الدولة الفلسطينية التي أراد عباس أن يجعل المنظمة دائرة من دوائرها فهي ما زالت "مشروعاً" لم يتحقق على الأرض، وهي ما زالت تحت الاحتلال الصهيوني. وهي ما زالت تتمثّل في سلطة وظيفية أمنية تأخذ صلاحياتها من الحاكم العسكري الإسرائيلي للضفة، كما ذكر الخبير القانوني الكبير أنيس القاسم.
وعلى أي حال، فإن هذا القرار يعطي رسالة صارخة لقوى المقاومة، ولكل القوى التي راهنت على المصالحة الفلسطينية، وعلى نزول قيادة السلطة عن "الشجرة"، بأن هذه القيادة ماضية في سياستها حتى لو كانت مدمرة للمشروع الوطني الفلسطيني؛ وأن المشكلة تكمن في العقلية والرؤية والمنهج وبناء المسارات الكبرى، أكثر منها مشكلة واختلاف آراء في جوانب إدارية ومصلحية.