شبكة قدس الإخبارية

معركة الشيخ جراح تتجدد

1926282292
زياد ابحيص

فشل الاحتلال الصهيوني في تهجير أهل حي كرم الجاعوني، وفشل بالتالي في قضم قلب حي الشيخ جراح أمام صمود أهله وما استقطب هذا الصمود من حوله من اهتمام وتأييد عالمي، ومن انخراط للفعل الشعبي ثم للمقاومة المسلحة؛ فلجأ لمحاولة التحايل على هزيمته تلك بالالتفاف على كرم الجاعوني على جبهات حي الشيخ جراح المختلفة، لعله يتمكن من إسقاطها واحدة، ليعود ويتفرغ لأهل الحي في ظرفٍ أفضل.

 

لماذا هذه الاستماتة على الشيخ جراح؟

 

قبل محاولة تحليل الوقائع المستجدة، لا بد من تجديد إلقاء الضوء على الدوافع الصهيونية، ولماذا كل هذه الاستماتة على حي الشيخ جراح تحديداً؟ الإجابة على هذا السؤال لها ثلاثة أبعاد إذا ما أردنا تناولها بتركيز واختصار:

 

الأول: البعد الجغرافي: فالشيخ جراح هو الذي يقف حائلاً ما بين الجامعة العبرية، ركيزة الاستيطان الصهيوني شرق مدينة القدس، وما بين المركز اليهودي المستحدث غربي القدس عقب عام 1948. الجامعة العبرية تحاول الاتصال شرقاً كذلك بكتلة أدوميم الاستيطانية التي تأسست في 1968، لكن العيسوية تقف شوكة في الحلق على تلك الجبهة، وبتكامل الاثنتين تبقى المستوطنات عاجزة عن الالتحام معاً كنسيج مدني واحد رغم 54 عاماً من الاحتلال والتهجير والسيطرة العسكرية. (ولعل الاستحضار المتكرر لترتيب الجامعة العبرية على القوائم العالمية بات يغلب على إدراكنا، ويلفت الأنظار عن وظيفتها الأساس كطليعة مشروع استعماري على مستوى الجغرافيا والعمق البشري والمعرفي).

 

الثاني: البعد سكاني: يشكل حي الشيخ جراح الحدود الشمالية لنسيج القدس المركزي، النسيج الذي يضم أحياء الشيخ جراح ووادي الجوز وشارع صلاح الدين والصوانة والشياح والطور والبلدة القديمة وسلوان ورأس العامود والثوري، والذي تخترقه ثلاث مستوطنات فقط هي الحي اليهودي في البلدة القديمة، ومستوطنة معاليه هزيتيم شبه الفارغة في رأس العامود، وشقيقتها بيت أوروت شبه الفارغة على السفح الشمالي لجبل الزيتون. في هذا المركز التاريخي الذي ما زال متماسكاً لمدينة القدس ما تزال نسبة أهل المدينة المقدسيين 94% من سكانه، فيما المستوطنون يشكلون 6% فقط، وهو ما يعني للاحتلال فشلاً ذريعاً في اختراق المركز التاريخي لمدينة القدس، وهذا هو اليوم الدافع الأهم خلف الاستماتة على قضم الشيخ جراح من الشمال وسلوان من الجنوب لتحقيق اختراق على شكل كماشة في هذا النسيج العربي التاريخي.

 

الثالث: البعد التاريخي: فالشيخ جراح كان أول أحياء القدس الجديدة نشأة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان الحي الذي أسسته العائلة الحسينية ولحقت بها عائلات النخبة الفلسطينية كالنشاشيبي وجار الله والعلمي، فبات من الناحية العملية المركز السياسي لمدينة القدس، وتعزز ذلك بتركز البعثات والقنصليات فيه، وبتأسيس مقرات المؤسسات الثقافية والمنظمات الدولية فيه، ويريد المحتل أن يمحو هذا الوجود السياسي الفلسطيني في القدس بكل آثاره وشواهده.

 

رهان المحتل: تطويق كرم الجاعوني:

 

خاض المحتل حربه على الشيخ جراح بشكل تدريجي وعبر الزمن، واستهدف ملكيات عائلة الحسيني بالدرجة الأولى، وتحديداً قصر المفتي وكرم المفتي إلى الشرق، ثم بدأ يوجه بوصلته نحو الجزء المأهول من الشيخ جراح وتحديداً حي كرم الجاعوني، فبدأ الموجة الأولى من التهجير في عام 2008-2009، وعاد ليحاول استئناف التهجير في 2021، لكنه فوجئ بما لم يكن في حسبانه من إرادة وصمود وقدرة على الحشد والتأييد ومن استجابة والتفاف حول الحي، وصولاً إلى انطلاق حرب كاملة دفاعاً عنه وعن الأقصى، فاستعصى عليه كرم الجاعوني بالطريقة الصعبة.

 

بعد هذا الاستعصاء عول الاحتلال على شكلين من التحايل: الأول التحايل على أهل الحي لجرهم في المحاكم إلى ما يقوض حقهم، ففشل هذا التحايل أمام رفضهم. أما الشكل الثاني من التحايل فهو محاولة حسم المشهد من حول كرم الجاعوني، بحيث يبقى لوحده شوكةً منفردة فيمسي اقتلاعها أسهل. هذا التحايل شمل ما يلي، ويمكن الرجوع إلى الخارطة المرفقة لعلها تسهم في توضيحه بشكلٍ أفضل:

 

  1. تسريع مخططات البناء وتغيير المعالم في الجبهة الشرقية: قصر المفتي الذي حُول إلى فندق شبرد ثم استولى عليه المستوطنون عليه ويجري اليوم العمل على تحويله إلى كنيس يهودي، وعلى بناء 56 وحدة استيطانية في الأرض الملحقة به، وكرم المفتي: ومساحته الأصلية 32 دونماً وتعمل بلدية الاحتلال على تحويله إلى حديقة توراتية تجاورها 500 وحدة سكنية يراد لها أن تمتد إلى كرم الجاعوني ليحل جزء منها محل أهله اليوم.

 

  1. تعزيز كرم المفتي بالإطباق على مشتل ومنزل عائلة صالحية: وتم ذلك للاحتلال في شهر 1-2022، ومساحتها ستة دونمات، بدعوى تحويلها إلى مساحات عامة للخدمات، وتخصيصها تحديداً لتأسيس مدارس لذوي الاحتياجات الخاصة على زعم بلدية الاحتلال.

 

  1. السيطرة على أرض المشاع العائلي المجاورة لحي كرم الجاعوني من جهة الغرب: ومساحتها نحو أربع دونمات وكانت تستخدم مغسلاً للسيارات وموقفاً لحافلات المواصلات العامة التابعة لشركة نصار، وجرى السيطرة عليها لتحويلها لحديقة مقابل الترخيص لفندق في النصف الثاني من الأرض الذي يملكه بعض أصحاب رؤوس الأموال الفلسطينيين، وهذه قضية شائكة يجب فتح ملفها لمعرفة كيف انتهت هذه الأرض إلى يد بلدية الاحتلال، وهي الأرض التي سبق أن أقامت عليها الحاجة أم كامل الكرد خيمتها الشهيرة للصمود بعد تهجيرها من بيتها عام 2008.
  2. أرض النقاع: إلى الغرب من حي كرم الجاعوني عبر الشارع، وتعرف ب"كبانية أم هارون" نسبة إلى "محسنة" صهيونية استأجرت الأرض الوقفية وأقامت عليها وحدات سكنية لبعض المُعدَمين من المستوطنين اليهود الذين هاجروا إبان فترة الهجرات الصهيونية الدينية المبكرة نهاية القرن التاسع عشر. والتسمية الأصلية العربية "أرض النقاع" هي جمع نقيعة، ويقصد بها الأرض الطينية الحمراء المستوية، لكونها تشرب الماء ولا يجري منها إلى غيرها، وهي صفة نادرة للأراضي في مدينة جبلية كالقدس، ولذلك اشتهرت بهذا الاسم. وتقطن هذا الحي اليوم 40 عائلة فلسطينية تعدادها نحو 200 شخصاً، ما يجعلها الكتلة المأهولة الثانية إلى جانب حي كرم الجاعوني.

الوقائع القانونية في هذا الحي مختلفة قليلاً عن كرم الجاعوني رغم أنهما يعودان في الأصل التاريخي إلى نفس الوقف الذري، وقف عائلة حجازي السعدي، وسلطات الاحتلال تتصرف مع أهله باعتبارهم مستأجرين محميين، وتستهدف عائلة سالم تحديداً زاعمة أن قانون "الإيجار المحمي" لا يسري عليها، وقد سلمتهم مهلة لإخلاء البيت في 1-3-2022 وهذا سر اشتعال المعركة عليه اليوم؛ وإخلاء فاطمة سالم وأبنائها وأحفادها من البيت هو مقدمة ستؤدي إلى استهداف بقية العائلات إن نجحت، ويمكن أن تتحول إلى شوكة تجعل الاقتراب من كل الحي أصعب إن أُفشلت، وهذا ما يجب أن يكون هدف المعركة الحالية في أرض النقاع.

 

  1. العودة لاحقاً إلى كرم الجاعوني: يطمح المحتل إلى الحسم في أرض النقاع المسماة زوراً "كبانية أم هارون"، لعله يعود إلى كرم الجاعوني الذي هو قلب الشيخ جراح الذي يصل كل هذه الجبهات معاً، فيصبح اقتلاعه أسهل. ومنع الحسم في أرض النقاع من شأنه أن يجعل مخطط العودة إلى كرم الجاعوني أبعد منالاً.

سس

 

خارطة الجبهات الخمس في الشيخ جراح وتظهر الجامعة العبرية في أقصى الشرق والمركز اليهودي غرب القدس في أقصى الغرب وبينها الجبهات الخمس. من إعداد الكاتب، مع جزيل الشكر للباحثين والصحفيين الذين لم يبخلوا بالجهد لتدقيقها.

ما هي أولويات معركة الشيخ جراح اليوم؟

من هنا فإن ذهاب الإرهابي المتطرف وعضو الكنيست عن حزب الصهيونية الدينية إيتمار بن جفير لنصب مكتبه أمام منزل عائلة سالم يأتي حرصاً على مضي الحكومة الصهيونية في مخططها، وللضغط عليها للمضي في تهجير عائلة سالم، ولحشد التأييد الحزبي والسياسي من حوله بحيث تصبح هذه القضية نقطة إحراجٍ للحكومة الصهيونية، وهو ما يحتم بالمقابل وضع كل الجهود الممكنة للتصدي له ومنع تهجير عائلة سالم بكل السبل، والحفاظ بالتالي على أرض النقاع على حالها لتشكل مع حي كرم الجاعوني شوكة ممتدة من الغرب نحو الشرق تقوض أحلام وصل الجامعة العبرية بغربي القدس، وتحفظ الوجود العربي الفللسطيني في المركز السياسي التاريخي للقدس، وتحافظ كذلك على اتصال الأحياء الشمالية العربية المقدسية للقدس مع نسيجها المركزي، وهذا له في الاتجاه العام أربع خطوط عمل:

 

الأول: استحضار الإرادة الشعبية في أرض النقاع ومن حول عائلة سالم: بالتركيز الإعلامي والتعبئة والدعوة للحشد والتضامن الشعبي الواسع، ولا بد هنا من منع تطبيع خيمة بن جفير وتحويلها إلى أمر واقع نحتج عليه، بل يجب العمل على اقتلاعها من جذورها حتى تحسم المعركة مبكراً ولا نسمح له بدحرجة كرة الثلج التي يريد أن يطلقها ضد عائلة سالم، ولا بد من نشر الوعي بحكاية عائلة سالم وتعزيز روايتهم كما تم في كرم الجاعوني.

 

الثاني: لقد كان منع تهجير الشيخ جراح منجزاً فرض بالنار والدم، فرضته المقاومة بالحرب إلى جانب الجهد الشعبي والتضامن الدولي، ولا بد لمعادلة الردع العسكري أن تتجدد إذا اقتضى الأمر، فالشيخ جراح يمكن أن يتحول إلى عنوان للعجز الصهيوني، ولقدرة الفلسطينيين وكل من يناصرون حقهم على فرض إرادتهم رغم ميزان القوى المختل.

 

الثالث: لا بد من تعزيز جبهة العيسوية شرقاً، فالشيخ جراح والعيسوية صنوان، جبهتان توأمان، وهناك جهد صهيوني منظم بدأ ينجح منذ شهور في اختراق العيسوية وتخفيض اشتعال جذوتها عبر مجموعة من المخاتير المشبوهين وتمرير المصالح عبرهم، ولا بد من التنبه لهذه الجبهة وأهميتها وارتباطها المصيري بالشيخ جراح. في 28 رمضان حين حاول المستوطنون المناورة لتشتيت الجهود وهاجموا أهل حي كرم الجاعوني فجراً كان شباب العيسوية هم من هطلوا عليهم كالسيل من علٍ فأخمدوا محاولتهم تلك وأكملوا طريقهم إلى الأقصى للدفاع عنه.

 

الرابع: لا يمكن التسليم اليوم بأننا خسرنا الجبهات السابقة، ولا بد من العودة لإحياء جبهة قصر وكرم المفتي، وجبهة أرض صالحية، خصوصاً وأنها جميعاً في أصلها من أوقاف عائلة الحسيني، وهذا يضع على كاهلها مسؤولية تاريخية في تفعيل النضال على هذه الجبهات، وستجد جماهير القدس إلى جانبها، وستجد تأييداً شعبياً عربياً وإسلامياً واسعاً، فهي ما تزال في نظر الأمة عائلة قدمت القادة والشهداء وأدت دوراً تاريخياً مشهوداً، لا يصح ترك ميراثه لقمة سائغة للصهاينة.

 

مهلة طرد عائلة سالم هي 1-3-2022، وإذا ما نشطت المواجهة واجتمعت أسباب الفعل والإرادة فإن التراجع الصهيوني حتمي، وهذا ما شهدت عليه معركة القدس منذ عام 2014 حتى الآن، لم تخرج القدس يوماً لتفرض تراجعاً إلا وفرضته، فالمطلوب أن نتحرك اليوم بكل قوة وأن لا نستكين.

#الشيخ_جراح