لطالما انشغلت دوائر صنع القرار في الحالة الفلسطينية بالبحث عن إجابة لسؤال مرحلة ما بعد محمود عباس، في ظل حالة الترهل التي تعتري بنية المؤسسات الفلسطينية سواء المُنبثقة عن منظمة التحرير أو تلك التي رشحت عن اتفاق أوسلو لتُشكل النظام السياسي الفلسطيني.
وأسهمت التطورات السياسية في الآونة الأخيرة في إعادة هذا النقاش إلى الطاولة مجدداً، بالنظر إلى التعيينات الإدارية والسياسية التي جرى إقرارها سواء في المجلس الوطني أو المجلس المركزي لمنظمة التحرير، فضلاً عن التنقلات الإدارية والأمنية داخل المؤسسات التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية
وهو ما يشير بوضوح إلى أن إرهاصات مرحلة ما بعد عباس بدأت فعلياً بتأسيس نفوذ فريق محدد داخل السلطة، يُمثله الوزير حسين الشيخ عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ورئيس جهاز المخابرات العامة ماجد فرج. فاختارت حركة فتح الشيخ عضواً لتمثيلها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وفي حال تولي منصب أمين سر اللجنة التنفيذية سيكون بمثابة نائب رئيس المنظمة.
ما فعلته قيادة السلطة في رام الله من استدعاءٍ للمجلس المركزي بعد انقطاع استمر أربع سنوات، لم يأت إلا في سياق تعبئة الفراغ وزيادة هيمنة وحضور حركة فتح داخل مؤسسات منظمة التحرير، فجرى تعيين هيئة جديدة لرئاسة المجلس الوطني، وإضافة أعضاء جدد إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بلا تشاور أو تفاهم وطني حول ذلك.
كما أن مخرجات دورة المجلس المركزي رقم 31 لم تكن على قدر التحديات التي تعيشها القضية الفلسطينية، ولم تُسهم إلا في إضعاف مكانة المنظمة، في ظل مقاطعة كثير من القوى والشخصيات الفلسطينية الاجتماعات التي عُقدت في رام الله، فضلاً عن الرسائل السلبية التي ترسلها السلطة إلى جهات مثل الجزائر ومصر عبر هذه الخطوات التي تتجاهل المبادرات والجهود المبذولة لإصلاح البيت الفلسطيني.
إضافةً إلى أن منظمة التحرير باتت اليوم محصورة بمنطقة جغرافية تغيب فيها أدنى درجات السيادة الفلسطينية، من حيث انتقال معظم مراكز القوة ومؤسسات المنظمة إلى مدينة رام الله، وهو ما ظهرت آخر ملامحه بتعيين روحي فتوحي رئيساً للمجلس الوطني، بعد أن كان مقر المجلس طوال السنوات الماضية في العاصمة الأردنية عمان.
ما يحدث على الأرض اليوم يشير إلى عملية هندسة داخلية تستهدف السيطرة على مؤسسات منظمة التحرير، وملاحقة أصوات المعارضين داخلها عبر تهميشهم وإضعاف نفوذهم وقطع الطريق على أي دعوات لإصلاح المنظمة من الداخل، ويبدو أن المسار الذي بدأ بتعيين هيئة رئاسية جديدة للمجلس الوطني سيُستكمل من خلال العمل على عقد مجلس وطني جديد لا يزيد عدد أعضائه عن 350 عضواً.
هذه التطورات يجرى العمل على تغطيتها سياسياً وإقليمياً لتكون بديلاً عن مسار الانتخابات الشاملة، ومحاولة من قيادة السلطة للالتفاف على الدعوات المطروحة غربياً لإجراء إصلاح هيكلي وبنيوي داخل منظومة السلطة، في ظل التخوفات التي تملكت أطراف محورية مثل الإدارة الأمريكية حول مستقبل السلطة في ظل الأزمات المركبة التي تعيشها والخوف من تأثير غياب عباس المفاجئ على المشهد الفلسطيني، وسبق أن حذر نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي هادي عمرو المسؤولين الاسرائيليين من خطورة واقع السلطة، مؤكداً أنه لم يرَ السلطة الفلسطينية في مثل هذا الوضع السيء من قبل، ووصف السلطة بـ ”إنها مثل غابة جافة تنتظر أن يشتعل شيء ما“.
وتكمن خطورة هذا المسار في كونه يُجيب على الاحتياج الأمني للاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأمريكية أكثر من تلبيته تطلعات سياسية للشعب الفلسطيني، إذ إن الإدارة الأمريكية تحاول استعارة بعض الأدبيات والأفكار التي وضعها وزير الخارجية الأمريكي السابق، جون كيري، خلال جهوده لإطلاق مفاوضات بين السلطة والاحتلال عام 2014، لإدارة الملف الفلسطيني وفق معادلة تعزيز الثقة، لتحسين الظروف الاقتصادية والأمنية بالاعتماد على تنازلات تقدمها الإدارة المدنية وجيش الاحتلال الإسرائيلي.
وتتقاطع هذه الأفكار مع توجه الحكومة الإسرائيلية الحالي لـ"تقليص الصراع" الذي يقوم في حقيقته على بنود السلام الاقتصادي والتخفيف من التّضييق على الفلسطينيين في مناطق السُّلطة، دون الاعتراف بحقوقهم السياسية، وهو ما يستهدف بالمحصلة تصفية القضية الفلسطينية، ولكن هذه الترتيبات والمحاولات لا تأتي سوى في إطار تجريب المُُجرب، لأن قدرة الشعب الفلسطيني على المواجهة وإفشال مشاريع التصفية تصاعدت على الرغم من الانكشاف الإقليمي الذي تعاني منه القضية الفلسطينية، وهو ما أظهرته معركة سيف القدس التي جمعت الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم على جبهة نضال واحدة.
من المهم التأكيد على أن هذه الترتيبات السياسية قد تؤهل فريقاً بعينه للوصول إلى سدة الحكم لكنها لا تعني بالضرورة قدرته على تحقيق الاستقرار وتثبيت شرعيته في ظل الانقسام الجغرافي والسياسي الحاصل، إذ إن النظام السياسي الفلسطيني يعاني من مشاكل بنيوية تبدو عصية على الحل ضمن المعطيات الحالية، وذهاب بعض الأطراف داخل السلطة لحسم أمر خلافة عباس مبكراً سيكون على حساب التوازنات الداخلية في حركة فتح، وهو ما قد يُسهم في تعميق وتأزيم المشهد الداخلي الفلسطيني، لاسيما أن محمود عباس ومن قبله ياسر عرفات تمكنوا من جمع الرئاسات الثلاث (منظمة التحرير، حركة فتح، السلطة الفلسطينية)، وهو الأمر الذي قد لا يكون للوريث القادم في ظل غياب الشخصيات التاريخية والمركزية، فضلاً عن الحاجة إلى استحقاق انتخابي لتثبيت الوريث الجديد، تحديداً في منصب رئاسة السلطة، الذي يكتسب شرعيته عبر صندوق الاقتراع، وهو الأمر الذي سيكون فارقاً في مسألة خلافة عباس.
وعليه، فإن الحل فلسطينياً يكمن في الاتفاق مبكراً على العودة لمسار الانتخابات الشاملة ليختار الشارع الفلسطيني ممثليه ضمن معايير وأسس ديمقراطية، والعمل في الوقت ذاته على إجراء إصلاح بنيوي داخل منظمة التحرير لتشمل كافة القوى الفاعلة في الشارع الفلسطيني، وتبرز الحاجة إلى التوافق على استراتيجية وطنية تقوم على توسيع نطاق المواجهة مع الاحتلال، مع التأكيد على أن رفض دعوات الإصلاح ستقود في نهاية المطاف لترسيخ أمر واقع جديد يقوم على اجتراح مسارات سياسية لا تقف عند حدود وشروط المعادلة التي تضعها قيادة السلطة في رام الله.