شبكة قدس الإخبارية

"ريان" .. طفل وحد أمة

273377932_10159624101742410_2045904607571251007_n
يحيى اليعقوبي

"أنا حبةُ القمح التي ماتت لكي تخضر ثانية، وفي موتي حياةٌ ما .."

يحدثُ أن نقعد مع الموت، بعينين مغمضتين وقلبٌ يرتجف، "بابا، بابا" .. صوتُ قلب ريان ظل لخمسة أيام يستغيث والديه وهو محاصر من كل الاتجاهات بين فراغ لا تزيد مساحته ثلاثين سنتيمترًا تظلم عليه الدنيا، يلتقط الهواء بعناء، لكنه ظل يتشبث بحبال الحياة حتى الرمق الأخير، ظل الطفل يعاند الموت، بينما كنا نتضرع إلى السماء "يا الله .. يا الله"، نناجي الله أن يخرجه من باطن الأرض حيًّا.

تمر الدقائق وكأنها جبال لا تتحرك؛ خمسة أيام مرت علينا كأنها خمس سنوات.

خاضت فرق الإنقاذ سباقًا مع الزمن، أيام وساعات طويلة عملت الفرق لحفر نفقٍ وإخراجه بهدوءٍ وحذر، كلنا لم يتمالكنا الصبر فعلقت قلوبنا مع ريان في قاع البئر، نمني النفس ونتابع عن كثب نريد أن يعود إلى حضن أمه لتصير يده أكثر دفئًا، وليبلل قلبها.

غفوت بجانب ابنتي قبل ساعتين من إعلان إخراجه، رأينا مقاطع كثيرة وطمأنتها عندما كانت تريد رؤيته حيًا: أنني في الصباح سأريها عملية إخراجه، أفقت بعد ساعتين على رسالة هبطت على قلبي كصاعقة قسمته شطرين "الديوان الملكي المغربي ينعى الطفل ريان"، لم أستعد – كما غيري من الملايين – لهذه النهاية، أو كنا نتجاهل الاعتراف في قرارة أنفسنا أنه في جوف الأرض، وفي قبرٍ يطبق عليه، وقد يحدث ذلك أو أنه السيناريو الأقرب.

أعادني ريان للحظة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في شهر مايو/ أيار 2021، حينما كتبت قصصًا وعشت لحظات انتشال الشهداء والمصابين من بين الركام، لا زلت أذكر مشهد طفلة انتشلتها فرق الدفاع المدني من بين الركام.

كانت ترخي يديها للأسفل ساكنة بلا روح يملؤها الغبار من أسفل قدميه حتى شعرها وبات لونها رماديا، يومها تهافت المصورون لالتقاط الصورة، بينما لم أجرؤ على فعل ذلك، لم أستطع، كانت يداي ترتجفان.

سكت صوت ريان، ومات، لكن أصوات استنجاد أطفال فلسطين وسوريا واليمن تخترق قلوبنا، تنادينا، هي الأخرى تتشبث بالحياة.

"عايشة ولا مستشهدة؟".. بقلب هش ينهشه الخوف والقلق يساوره من كل اتجاه وجانب، يسأل أحد أقارب الطفلة ضباط الدفاع المدني، الذي حاول التلصص على أي نفس أو نبض من الطفلة التي جرى للتو انتشالها، أومأ برأسه "للأسف، شهيدة"، تعالت تنهيدات الجيران "حسبنا الله ونعم الوكيل".

إن الوحدة التي عشناها تضامنا مع ريان وقلب أمه وأبيه، هي الوحدة التي يجب أن نحمي بها كل طفل عربي يستغيثنا.

رغم ما نكتبه ونعيشه ونفرغ مشاعرنا على مساحة تكسر بياضها حروف سوداء ننكس فيها راية الحزن، ونشيع فيها ريان الذي شيعناه في قلوبنا، وغسلنا روحه الطاهرة بدمعات عيوننا قبل أن تسبقنا إليه ملائكة السماء، علينا أن ندرك أنه لا يوجد معان تصف أدق تعبير للرحيل، مهما حاولنا ذلك، ومهما أسعفتنا أبجديتنا، فهناك شعور داخلي لا يمكن وصفه فلا يشعر به إلا من شرب كأسه المرير.

هو شعور بالفراغ وغياب إنسان عن حضن والديه، هما فقط سيتجرعان مرارة الفقد، التي يتجرعها أيضا كل من فقد أحباءه، بينما نحن سنستيقظ في الصباح لنرى أطفالنا بقربنا، رغم كل الوجع الذي نشعر به الآن.

كشفت الحادثة عن هشاشة الإمكانات العربية، ففي وقت تصرف فيه ملايين الموازنات على الأمن، تتجاهل الحصول على إمكانات تكنولوجية مثل ريبوتات صغيرة الحجم منها ما هو طبي كان باستطاعتها التعامل مع الطفل وإنقاذه، بدلاً من استخدام طرق انقاذ بدائية في دولة لديها موارد وإمكانات ضخمة، صحيح أننا لسنا في موضع النقد الآن، لكن هذا ما يجب مناقشته في كل دولة عربية حتى لا نفجع ثانية، فكمن من ريان يقتل يوميًا بسبب الاستهتار بحياة الإنسان وكرامته، وتضييع الأموال العربية وقهر المواطن العربي كما قهرنا على ريان وهدرها بدلاً من تطوير الإمكانيات في التعامل مع الكوارث والحالات الطارئة.

ريان .. الجميل فيك يا صغيري أنك ورغم صغر سنك فقد استطعت أن تجمع شتات قلوب أمة كاملة، لقد ذكرتنا أننا أمة عربية وإسلامية واحدة تربطنا لغة ودين واحد، لقد أحييت إنسانية العالم من سباتها ومتَّ أنت، ذكرت الضمير الإنساني أن هناك أطفالاً يواجهون الموت مثلك كالطفل السوري المختطف فواز القطيفان والذي يتعرض للتعذيب والضرب من الجماعة الخاطفة مطالبين عائلته بدفع فدية مقابل الإفراج عنه، هذا يحدث وهناك أمم متحدة واتفاقية حماية طفل تنص على أنه "لكل طفل الحق في الحياة، وأنه على الحكومات أن تتأكد من بقاء الطفل على قيد الحياة كي يكبر بأفضل طريقة ممكنة" فأين هذه الاتفاقية على الأرض.

#المغرب #ريان