يأتي ضمن التوقعات الفلسطينية لسنة 2022 المؤشرات السكانية اللافتة التي تحدث عنها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أن عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية سيتساوى مع أعداد اليهود في فلسطين التاريخية مع نهاية هذه السنة؛ إذ سيبلغ عدد كل منهم سبعة ملايين ومئة ألف نسمة، وأن عدد الفلسطينيين سيبدأ بعد ذلك بتجاوز عدد اليهود، ليزيد عنهم بنحو 300 ألف بعد أربع سنوات (نهاية 2026).
وهذه التوقعات في إطارها الإيجابي تؤكد على أن الشعب الفلسطيني بالرغم مما عاناه ويعانيه من قهر وتشريد واحتلال، ما زال صامداً على أرضه، وأن المشروع الصهيوني بعد نحو 125 عاماً على نشأة المنظمة الصهيونية العالمية، ونحو 74 عاماً على إنشاء الكيان الصهيوني، يجد نفسه أمام حقيقة أن عدد الشعب الفلسطيني في الداخل يتجاوز عدد المستوطنين اليهود الذين قام بتجميعهم من أكثر من مئة بلد حول العالم على مدار تلك السنين والأعوام. وهذا بلا شك حقيقة مقلقة للكيان الصهيوني.
في المقابل، فإن الحديث عن "القنبلة الديموجرافية" الفلسطينية لا ينبغي أن يصيب الفلسطينيين بنشوة الانتصار أو الاسترخاء، إذ إن الصمود الفلسطيني على الأرض والزيادة السكانية ظاهرة مهمة، ولكنها غير كافية، وهي واحدة من مجموعة عناصر أساسية في مشروع الصمود والتحرير. وهي لوحدها ليست عنصراً حاسماً، إذ إن التجارب الاستعمارية عبر التاريخ أظهرت قدرة الاستعمار في أحيان عديدة على التعامل مع هكذا ظواهر وتجاوزها، وتظل "صناعة" الإنسان أهم بكثير من مجرد زيادة "المواليد".
ومن ناحية ثانية، فإن الصهاينة الذين يدركون خطورة هذه الظاهرة يعملون منذ عشرات السنوات على تجاوزها؛ فكان انسحابهم من قطاع غزة سنة 2005، حيث يتواجد مليونان و140 ألف فلسطيني مع بداية 2022 (نحو 30.7 في المائة من فلسطينيي الداخل)؛ وكانت خطتهم في الضفة الغربية في "الضم الزاحف" و"الانفصال الزاحف" لضم أكبر مساحة من الأرض وأقل عدد من السكان، وإبقاء الفلسطينيين في معازل (كانتونات) في شكل حكم ذاتي ممسوخ قد يحمل شكلياً اسم دولة؛ وهو ما يحدث فعلياً على الأرض، بعد الانهيار العملي لمسار التسوية وحلّ الدولتين.
من جهة ثالثة، فإن الاحتلال الصهيوني أوجد بيئة حياة طاردة للفلسطينيين، سواء بسبب الحصار الخانق في قطاع غزة، أو ممارسات التهويد والاستيطان والاستغلال الاقتصادي ومطاردة الأحرار في الضفة، حيث تشير بعض الإحصائيات إلى مغادرة نحو 415 ألف فلسطيني للضفة والقطاع خلال الفترة 1967- 2003، هذا بالإضافة إلى عشرات الآلاف من كل من الضفة والقطاع في السنوات الماضية، حيث لا تتوافر إحصاءات دقيقة بذلك.
وعلى سبيل المثال، أشار تقرير لدائرة شؤون المغتربين في منظمة التحرير الفلسطينية، أعده تيسير خالد، أن نحو 50 ألف فلسطيني في الضفة والقطاع تقدموا بطلبات هجرة سنة 2006، إلى القنصليات الأجنبية خصوصاً الأمريكية والكندية والأسترالية والاسكندنافية، وأنه تم قبول 10 آلاف طلب. وهذه حالة من النزيف المستمر وربما المتزايد الذي يحتاج إلى متابعة، على الأقل لمعرفة حجم الظاهرة بدقة، والعدد الحقيقي للفلسطينيين تحت الاحتلال، وكيفية دعم صمودهم.
من جهة رابعة، فتجب ملاحظة أن خصوبة المرأة الفلسطينية في حالة تراجع في الداخل الفلسطيني، بالرغم من أنها تظل في الأمد القريب والوسيط أعلى من مثيلتها اليهودية. إذ بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فإن معدل خصوبة المرأة الفلسطينية في الضفة والقطاع انخفضت من ستة مواليد سنة 1997 إلى 3.8 مواليد سنة 2020، حيث انخفضت في الضفة الغربية من 5.6 إلى 3.8، وفي القطاع من 6.9 إلى 3.9 للفترة نفسها (1997–2020). كما انخفض معدل الزيادة السكانية الفلسطينية في الضفة والقطاع من 3.8 في المائة سنة 1997 إلى 2.4 في المائة سنة 2021، حيث انخفض المعدل في الضفة من 3.6 في المائة إلى 2.2 في المائة، وفي القطاع من 4.1 في المائة إلى 2.8 في المائة للفترة نفسها (1997–2021). وهي ظاهرة يجب أن تقلق الفلسطينيين أيضاً.
وحتى في فلسطين المحتلة 1948، فإن معدل خصوبة المرأة الفلسطينية تراجعت إلى نحو ثلاثة مواليد في سنة 2018، لتتساوى تقريباً مع خصوبة المرأة اليهودية، مع ملاحظة أن اليهود الحريديم (المتدينين المتشددين) تصل خصوبة المرأة لديهم إلى سبعة مواليد. كما انخفضت نسبة الزيادة السكانية لفلسطينيي 1948 من 3.4 في المائة سنة 1998 إلى 2 في المائة سنة 2021.
من ناحية خامسة، فإن ملفات التهجير و"الترانسفير" ما تزال موجودة على طاولة صانع القرار الإسرائيلي، الذي يزداد مجتمعه الصهيوني تطرفاً دينياً وقومياً.
وبالرغم من أن معدلات الزيادة السكانية وسط اليهود في فلسطين المحتلة كان بحدود 1.57 في المائة سنة 2021، أي أقل من معدلات الزيادة الفلسطينية، فإن تجاوز أعداد الفلسطينيين لأعداد اليهود في فلسطين التاريخية يجب أن يوضع في إطاره الموضوعي، وفي إطار العديد من التحديات والمخاطر التي تواجه الشعب الفلسطيني في الداخل.
المؤشر السكاني الفلسطيني الثاني الذي يجدر التوقف عنده هو أن تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني التي قدَّرت عدد الفلسطينيين في العالم بنحو 14 مليوناً في نهاية 2021 (مطلع 2022)، تشير إلى أن فلسطينيي الخارج يصل عددهم إلى نحو سبعة ملايين و37 ألفاً، أي أكثر من نصف عدد الشعب الفلسطيني بقليل (50.2 في المائة). ونبه إلى أن عدد فلسطينيي الدول العربية بلغ نحو ستة ملايين و287 ألفاً؛ بينما قُدّر فلسطينيو باقي بلدان العالم بنحو 738 ألفاً.
ويلاحظ أن الفلسطينيين المقيمين في بلدان الطوق (على حدود فلسطين) يزيدون عن 75 في المائة من فلسطينيي الخارج، مما يدل على أنهم ما زالوا قريبين وملتصقين بأرضهم وأن عودتهم عملية وممكنة. وهو الارتباط نفسه الذي يشمل باقي فلسطينيي العالم الذين تنشط في أوساطهم مؤسسات العودة وفعاليات الجاليات الفلسطينية، وإن كانوا يتعرضون بشكل أكبر لمخاطر "الذوبان" في البيئات الغربية.
وتشير بعض التقديرات إلى وجود نحو أربعة ملايين و390 ألف فلسطيني في الأردن يحمل معظمهم الجنسية الأردنية؛ لكنهم يرفضون "التوطين" و"الوطن البديل".
من ناحية ثانية، فإن فلسطينيي سوريا ولبنان يتعرضون لحالة "نزيف" سكاني كبيرة. فبالرغم من أن اللاجئين الفلسطينيين في سوريا كانوا من أكثر التجمعات الفلسطينية استقراراً، إلا أن الأحداث التي اندلعت منذ 2011 أثّرت بشكل هائل عليهم، فمن أصل نحو 656 ألفاً بحسب تقديرات في نهاية 2020، اضطر لمغادرة سوريا نحو 200 ألف؛ هاجر أكثر من 120 ألفاً لأوروبا، ونحو 25 ألفاً غادروا إلى لبنان، ونحو عشرة آلاف إلى تركيا. في الوقت نفسه عانى نحو 40 في المائة ممن تبقوا في سورية من النزوح الداخلي (أكثر من 180 ألفاً) بعد أن تعرضت مخيماتهم للدمار، خصوصاً مخيمات اليرموك ودرعا وحندرات وخان الشيخ. وهم يعيشون حالة مأساوية من البطالة والفقر واللا استقرار، مما يتهدد هذا المجتمع بمزيد من النزيف.
وفي لبنان، تشير أرقام الأونروا إلى وجود نحو 543 ألف لاجئ في سجلاتها في نهاية 2020، إلا أن الإحصاء السكاني للاجئين الفلسطينيين في لبنان في سنة 2017 أعطى أرقاماً بحدود 174 ألفاً فقط. ولو افترضنا وجود نسبة خطأ غير بسيطة في هذه الإحصاءات؛ فإن التقديرات التي يكاد يتوافق عليها معظم الباحثين تتراوح بين 200 و250 ألفاً، مع وجود نسبة عالية من المتبقين ترغب بالمغادرة والهجرة إن أتيح لها ذلك. وهو ما يعني أن اللجوء الفلسطيني في لبنان عانى ويعاني نزيفاً كبيراً، وهو نزيف تزايد في السنوات الأخيرة مع استمرار إغلاق أبواب العمل في وجوه الفلسطينيين، ومع الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان.
لقد تلقى الوجود الفلسطيني في البلاد العربية ضربات قاسية خصوصاً في الثلاثين سنة الماضية، كما حدث مع فلسطينيي الكويت وليبيا والعراق، بينما ما يزال "النزيف" مستمراً في سوريا ولبنان؛ وهو ما يجب أن يؤخذ بجدية لدى صانع القرار الفلسطيني، ولدى كلّ من يعنيه مستقبل القضية الفلسطينية.
المؤشر الثالث والأخير متعلق بتقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لأعداد الفلسطينيين في البلدان غير العربية (أوروبا والأمريكيتين وأستراليا وغيرها) التي تقدرهم بنحو 738 ألفاً. وهي كما يبدو تقديرات قديمة غير محدثة، ولعلها تفتقر للدقة. إذ بالإضافة إلى الفلسطينيين الذين غادروا البلاد العربية في العقود الثلاثة الماضية (من دول الطوق وبلدان الخليج وليبيا)، ومن فلسطين نفسها إلى دول العالم، فإن التقديرات السابقة حول الفلسطينيين في العالم فيها العديد من التباينات، وتحتاج إلى المزيد من التدقيق والمقارنة والمراجعة.
فمثلاً تميل بعض التقديرات إلى أن عدد فلسطينيي أمريكا الجنوبية هو أكثر من 600 ألف منهم 300 ألف على الأقل في تشيلي؛ بينما لا يقل عدد فلسطينيي أوروبا عن 350-400 ألف، وفلسطينيي أمريكا الشمالية عن 300- 350 ألفا، ولا يقلون في باقي بلدان العالم عن 100 ألف.
ووفق هذه التقديرات يزيد عدد فلسطينيي باقي دول العالم بنحو مليون عن تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. ولعل أمام الباحثين والمتخصصين مهمة شاقة، ولكن ضرورية، للوصول إلى تقديرات أكثر دقة للفلسطينيين في العالم.