شيء من التاريخ
كان لا بدّ وأن يستدعي الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، دخول قوى غير فلسطينية على خطّ المقاومة الفلسطينية. فمن جهة؛ للصراع بعد دوليّ، فالكيان المحتلّ أسّسته قوى دولية، ويستند في شرط وجوده واستمراره إلى تحالفات ضامنة، وهو ما يُلزِم المقاومة الفلسطينية أن تُعظّم من تحالفاتها وأن تحيّد خصومها قدر الإمكان، ومن جهة أخرى، فالصراع معه، في جوهره وأساسه، أوسع من أن يكون فلسطينيّاً، ولطالما رأى فيه العرب وغير العرب ذلك.
تاريخيّاً، توزعت خارطة الفصائل الفلسطينية على علاقات، أو ولاءات، متعدّدة، تبدأ بالدول العربية القريبة (مصر وسوريا والعراق وليبيا)، وتنتهي في العالم الشيوعي (الاتحاد السوفييتي والصين)، مع ولاءات نظرية كانت تتكاثر داخل الفصيل الواحد، من ميول ماوية إلى ميول فيتنامية إلى ميول سوفييتية، وهكذا، فضلاً عن التنوع الأيديولوجي الأوسع الذي يرتبط بتحالفات أيديولوجية، وعن الظروف التي كانت تملي تحالفات سياسية وعسكرية مع قوى حزبية، كما في الحرب الأهلية اللبنانية مثلاً.
في قلب هذه الحالة، رفعت حركة فتح شعار "القرار الوطنيّ الفلسطينيّ المستقلّ"، ورفعته بالدرجة الأولى في وجه النظام السوري، وبدرجات أخرى في وجوه غيره بحسب المرحلة، (من نافلة القول إنّ هذا الحديث عن زمن ماضٍ، فتأسيس السلطة أوجد شرطاً جديداً حجّم من إمكانية الاستقلال وجعل ذلك الشعار شيئاً من الماضي، مهما رفع اليوم ادعاءً أو مناكفة)، بينما حاولت حماس بعد تأسيسها أن تستفيد من تجربة قوى الثورة الفلسطينية السابقة عليها، فرفعت شعار "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية"، و"حشد الجميع على مواجهة العدوّ الصهيوني".
لم تجد حركة حماس داعمين جدّيّين لها، إلا في المحور الذي سُمّي بمحور المقاومة والممانعة، دون أن تقتصر العلاقات الجيدة، لكلّ منهما، على محوره، وقد أفضى ذلك إلى اتهامات طال تبادلها في الساحة الفلسطينية حول الولاءات الخارجية
بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، انقسمت المنطقة إلى محورين: الأوّل الذي سُمّي بمحور الاعتدال، وهو المحور الذي يتبنى مشروع التسوية، وقد رأت حركة فتح فيه موقعها الطبيعي نظراً لموقع السلطة التي تقودها، بينما لم تجد حركة حماس داعمين جدّيّين لها، إلا في المحور الذي سُمّي بمحور المقاومة والممانعة، دون أن تقتصر العلاقات الجيدة، لكلّ منهما، على محوره، وقد أفضى ذلك إلى اتهامات طال تبادلها في الساحة الفلسطينية حول الولاءات الخارجية.
ارتباكات الراهن
تشظّى هذا الاصطفاف من بعد الثورات العربية، وصار أكثر سيولة، ففي حين ما تزال علاقة حماس بالنظام السوري منقطعة، وهو الذي يُعدّ ركناً في المحور الموسوم بمحور المقاومة، وقد جرى توظيف ذلك من حلفائه غطاء لدعمه في الثورة الشعبية عليه، فإنّ علاقاته تتجدّد بأعتى قوى التطبيع العربي مع "إسرائيل"، أي دولة الإمارات، إلا أنّه وبالرغم من ذلك سعت إيران لإعادة ترميم هذا المحور، وتوثيق علاقاته، وتحويله، في مجالاته الجغرافية المتنوّعة وبقضاياه المختلفة، إلى وحدة موضوعيّة واحدة، بشعار واحد (وهو المقاومة). وبالضرورة، لم يكن ثمّة مجال للتجاوز عن قوى المقاومة الفلسطينية، وهذه القوى بدورها لا يمكنها إدارة الظهر لداعم إقليمي صريح ومباشر كإيران، فضلاً عن حاجتها له.
بغض النظر عن وجود اختلاف تاريخي مستمر بين قوى المقاومة الفلسطينية الراهنة، في سياقات بناء هذه العلاقة، ما بين قوى تأسست على وقع الثورة الإيرانية وارتبطت بها مبكراً، كحركة الجهاد الإسلامي، وقوى تأسست في صيرورة ذاتية مستقلّة كحركة حماس، فإنّ التحالف الذي يجمعها بإيران - على ضرورته - مربك لها، وإن لم يكن بالضرورة بالقدر نفسه، لاختلاف سياقات هذه القوى وأحجامها ومسؤوليّاتها، وحتى نظريّاتها في كيفية إقامة العلاقات الإقليمية والدولية.
التحالف الذي يجمعها بإيران - على ضرورته - مربك لها، وإن لم يكن بالضرورة بالقدر نفسه، لاختلاف سياقات هذه القوى وأحجامها ومسؤوليّاتها، وحتى نظريّاتها في كيفية إقامة العلاقات الإقليمية والدولية
في ما يتعلق بحماس، فالإرباك ناجم أساساً من كونها ترى (بالتأكيد هذه قراءتي الشخصية لرؤيتها) أن الالتحاق بالسياسات الإيرانية في الإقليم العربي، يتناقض مع شعار الحركة الذي يدعو لعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، فضلاً عن وجود قوى شعبية حليفة للحركة، تجد نفسها إمّا في موقع الصدام مع المشروع الإيراني، أو غير متعاطفة معه. وهذه القوى كانت دائماً في طليعة داعمي الحركة مالياً ودعائيّاً، حتى لو كانت الحركة لا تتحدث عنها إلا في إطار تعبيرات فضفاضة، وهذا في العلاقات المباشرة، الأكثر وضوحاً من الحديث العام عن الأمّة وعمقها.
لا يقتصر الارتباك على هذا الجانب من المسألة، فخصوم إيران جعلوا حماس عدوّاً لهم، واستهدفوها مباشرة، بقطع العلاقات والاعتقالات، ومصادرة الأموال والاستثمارات، والجهد الاستخباراتي المتحالف مع العدوّ ضدّها، فضلاً عن الاختلاف الأساس في الرؤية السياسية. هذا الاستهداف للحركة لم يكن في حقيقته ناجماً عن علاقتها بإيران، وإنما بسبب اندراج الحركة في القوى الإسلامية التي باتت تعاديها هذه الدول، أو لأنّ الحركة طليعة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، مما يجعلها على النقيض مع سياسات التطبيع والتحالف مع العدوّ الصهيوني، ومن ثمّ فسوف تجد الحركة نفسها في مركب واحد مع إيران من هذه الحيثية، وهو أمر لم تكن تحبّذه حركة سعت تاريخيّاً لتوسيع علاقاتها السياسية.
وإذا كانت الحركة ترتبط مع إيران بعلاقة تحالفية لا يمكن تفسيرها بمصطلح قاصر في سياقه السياسي، وأقحم فيه على نحو غريب، وهو "أكل الميتة"، إذ ترى الحركة في إيران خصماً جدّيّاً لـ"إسرائيل"، وإذا كانت بعض الدول العربية دفعتها من حيثية أخرى إلى زاوية واحدة مع إيران، فإنّ ذلك لا يعني أن مجريات هذا التحالف والتعبيرات عنه سويّة تماماً، أو لا تُدْخِل الحركة في تناقضات يمكن تجنّبها.
تباينات رؤى التحالف
تقوم رؤية حماس، كما يُفترض، على أن التحالف مؤسّس على قاعدة مواجهة العدوّ المشترك، وهو العدوّ الإسرائيلي، وفي حين تستفيد حماس من الدعم الإيراني متعدّد الأوجه، فإنّ إيران تستفيد من حماس في مشاغلة خصمها الإقليمي الأهمّ وهو "إسرائيل". وإذا كانت السياسة الإيرانية التي ترتكز إلى خطاب معادٍ لـ"إسرائيل" لا يمكنها أن تتجاوز حركة كحماس، فإنّ حماس في حقيقة الأمر تقوم بواجبها الذي نشأت لأجله، بغض النظر عن وجود إيران في العالم من عدمه.
هذا التحالف الذي يلتقي فيه المبدأ بالمصلحة ينبغي أن يكون بمجرّده تحالفاً قويّاً، إلا أنّ الاختلاف حول الملف السوري، في حينه، كشف أن الرؤية الإيرانية للتحالف ليست على هذا النحو، وتطالب أحياناً بقدر من التطابق في الملفّات الإقليمية، في حين أنّ حماس ترى للصراعات في تلك الدول سياقات خاصّة، يستحيل فيها تصنيف جميع خصوم السياسة الإيرانية بأنهم عملاء لـ"إسرائيل". ففي اليمن والعراق وسوريا ولبنان، من يصطدم مع السياسة الإيرانية، وتجمعه بحماس أيديولوجيا واحدة، ورؤية مشتركة في العداء لـ"إسرائيل"، ويقدّم لحماس دعماً حقيقيّاً، فكيف يمكن لها أن تصطفّ ضدّه ولو خطابيّاً أو دعائيّاً؟!
الأخطر في هذه المشكلة، أنّ قوى المقاومة الفلسطينية وحدها هي التي تقوم، منذ 16 عاماً على الأقل، بهذا الدور المباشر في التحالف، أي الصدام العسكري مع الاحتلال الإسرائيلي. فهي التي تقوم بالدور الأهمّ فعليّاً، مما يجعل أشكال الدعم الأخرى لها، على أهمّيتها، في الدرجة الثانية من الأهمّية، فكيف تجد نفسها، والحالة هذه، مضطرة للاصطفاف في ملفّ إقليميّ، لها ملاحظتها الخاصّة بتعقيداته، أو أن تتخلّى عن شيء من ندّيتها أو استقلاليتها؟!
مهما كانت سياسات الأنظمة العربية المتحالفة مع "إسرائيل"، فإنّ للمقاومة الفلسطينية مسؤولية تجاه شعوب المنطقة بعدم توفير الخدمة المجانية لدعاية تلك الأنظمة، التي تروّج لسياساتها بشيطنة الفلسطينيين وتقديمهم أعداء لتلك الدول ولشعوبها
بالنسبة لحماس تحديداً، فهي التي كانت دائماً ما ترى في نفسها ذاتاً مستقلة، لها هويّتها ومشروعها وسياقاتها التاريخية الخاصّة، وقد أثبتت صدقيّة استقلالها بقرارها مراراً، وأثبتت خيبة العديد من التوهّمات حول طبيعة علاقاتها، سواء في امتدادها الحركي الإسلامي، أم في علاقتها بإيران، وسوريا من قبل، أم في علاقتها ببعض الدول الخليجية، وهو ما لا ينبغي أن تتخلّى عنه الحركة، ولو جزئيّاً ولا حتّى في بعض التعبيرات الإعلامية، وهو ما ينبغي أن يثير يقظتها لسياسات تحاول الاشتغال على تمايزات داخل صفّها الداخلي. إنّ وحدة الحركة واستقلال قرارها وندّيتها تجاه حلفائها بعض من رأسمالها، تماماً كبنيتها المقاومة.
من جهة أخرى، ومهما كانت سياسات الأنظمة العربية المتحالفة مع "إسرائيل"، فإنّ للمقاومة الفلسطينية مسؤولية تجاه شعوب المنطقة بعدم توفير الخدمة المجانية لدعاية تلك الأنظمة، التي تروّج لسياساتها بشيطنة الفلسطينيين وتقديمهم أعداء لتلك الدول ولشعوبها.
وأخيراً..
ليست المسألة دعوة للحياد بين حلفاء "إسرائيل" وبين أعدائها، فالمقاومة الفلسطينية هي رأس الحربة المعادي لـ"إسرائيل" في هذا العالم كلّه، وعداؤها لـ"إسرائيل" مشروعها الوحيد الخالص بلا التباسات، بل المسألة من شقّين؛ الأوّل تعقيد الاعتبارات الداخلية في كلّ ملفّ إقليميّ، وهي اعتبارات متحوّلة، فكم مرّة تغيّرت الاصطفافات اليمنية اليمنية أو اللبنانية اللبنانية.. الخ؟ والشقّ الثاني مراعاة حسابات المقاومة الفلسطينية وما يتصل بها من مصالح تتجاوزها إلى عموم الشعب، فكيف يمكن مثلاً تفهم حاجة النظام السوري للعلاقة بالإمارات التي يقصفها الحوثي، بينما تتبرع قوى في المقاومة الفلسطينية للتعبير الحدّيّ عن اصطفاف ناجز في هذا الصراع؟!
المصدر: عربي 21