لم يمر على محمود عباس خلال 86 عاماً أسوأ من العام 2021. والطريف أنه لا يشعر بذلك، وحوله من وصف لقاءَه ببيني غانتس، وزير الحرب الصهيوني، باعتباره فعلاً شجاعاً، وإنجازاً هاماً (وفي القلب تاريخياً)، وقد كان خاتمة عام 2021.
من تأمل حال محمود عباس في الأيام التي عرفت باسم وحدة الشعب الفلسطيني، أو باسم حرب سيف القدس، سيجده في أسوأ حال مرّ عليه في رئاسته طوال 16 عاماً تحديداً، أو مرّ به طوال سنين عمره.
فكل ما راهن عليه، وسعى إليه خلال العام السابق لتلك الأيام فشل، وأيّ فشل، وكان قد فشل قبل أن تندلع المواجهات في باب العامود أو الشيخ جراح أو المسجد الأقصى، وذلك من خلال إعلانه تأجيل الانتخابات، وهو الذي أصدر المراسيم المدويّة لإطلاقها، وأراد من الشعب الفلسطيني وقواه السياسية أن يعلقوا الآمال العريضة عليها، واعتبارها بمثابة طوق النجاة من الغرق، للانطلاق نحو تحقيق الهدف "الأسمى" الذي هو حلّ الدولتين، وتحت راية "الشرعية" الدولية.
من تأمل حال محمود عباس في الأيام التي عرفت باسم وحدة الشعب الفلسطيني، أو باسم حرب سيف القدس، سيجده في أسوأ حال مرّ عليه في رئاسته طوال 16 عاماً تحديداً، أو مرّ به طوال سنين عمره
بغض النظر عما قد يحتج به من أسباب أدت إلى إلغاء الانتخابات، حتى لو كان على رأسها ما أحدثته من تصدّع داخل فتح، أو ما لوّحت به من هزيمة انتخابية نكراء، أو أشدّ نكراً عليه من انتخابات 2006، فإن إلغاءها كان إعلان فشل صارخ له، ولكل من يراهن على انتخابات فلسطينية، في ظرف تحتدم فيه المواجهة مع الاحتلال والاستيطان، وضم القدس وتهويدها، وتفاقم انتهاكات المسجد الأقصى. وهذا عقاب عملي لكل من لا يرى أين الأولوية في الصراع مع الكيان الصهيوني، أو في مواجهة المؤامرات التي تتعرض لها القضية الفلسطينية.
هذا، وراح محمود عباس يلملم فشله أيضاً في كل ما حاول الوصول إليه تحت دعوة المصالحة، أو إنهاء الانقسام، أو إعادة بناء منظمة التحرير التي جفت عروقها وأصبحت كعجز نخلة خاوية، أو إعادة تجديد "الشرعية الفلسطينية" التي ذهبت إلى كارثية اتفاق أوسلو بتنازلها عن 80 في المائة من فلسطين، واعترافها بالكيان الصهيوني الاقتلاعي الإحلالي المغتصِب العنصري المجرم؛ غير الشرعي.
وكان على محمود عباس أن يتراجع أيضاً عن كل الوهم الذي أشاعه في لقاء الأمناء العامين، ومن بعده المباحثات الثنائية بين فتح وحماس. ولكن جاءته الضربة القاسية، غير المتوقعة، من الصدام الذي خاضه شباب القدس ضد وضع الحواجز الحديدية للسيطرة على باحة باب العامود، وقد فرض على العدو تراجعاً مذلاً برفع الحواجز، ثم تبعته مواجهات في الشيخ جراح، دفاعاً ضد الاقتلاع والترحيل، ثم المواجهات الأشد لمنع اقتحام أكثر من مائة ألف مستوطن للمسجد الأقصى، مما أطلق قرار المقاومة في قطاع غزة بتوسيع قواعد الاشتباك لتشمل المسجد الأقصى، معلنة حرب سيف القدس، لتبدأ الصواريخ تجول وتصول.
فقد كان قراراً صائباً بمستوى معركة الكرامة في آثاره السياسية، وسمح للمقاومة في قطاع غزة أن تمتلك زمام المبادرة، وإذا بانتفاضة شبابية هائلة غير منتظرة تندلع في مناطق الـ48 في اللد ويافا وعكا وقرى الجليل، معلنة أن فلسطين لنا، كل فلسطين لنا، ثم لتمتد أذرع الانتفاضة في الضفة الغربية وتضرب في رام الله حيث معقل محمود عباس وقوات التنسيق الأمني، الأمر الذي وضع محمود عباس في مأزق لم يعرف مثله من قبل. فخطه السياسي كان ممرغاً في طين الفشل، وخطه في التنسيق الأمني أصبح فضيحة بمواجهته للانتفاضة في الضفة الغربية.
والأهم أن كل المساعي من بعض العرب المتطوعين للتوسط، أو المكلفين به، لم يسألوا محمود عباس (الرئيس) عن رأيه في وقف إطلاق النار، أو في شروطه. فقد عاملوه كواقف على قارعة الطريق، فيما الذين سيقررون، وبيدهم القرار، يقبعون خلف الصواريخ في قطاع غزة، ومعهم زملاؤهم في قيادة المقاومة في الخارج.
فهل هنالك وضع يحلّ بالرئيس محمود عباس أسوأ من هذا الوضع، وهو أمر يدركه مهما كابر في رفضه، أو محاولة تخطيه، أو التعايش معه لاحقاً، كما فعل حتى الآن؟ وقد لحق به مأزق آخر عندما أخذت تندلع معارك مواجهة في بيتا، وبرقة وبزارية، والناقورة، وسيلة الظهر، وجبع، وعرابة، واليامون، وغيرها مع كل الحب والتقدير.
هذا اللقاء شكل طعنة في خاصرة فتح التي تململت لتأخذ موقفاً في مواجهة المستوطنين واستفزازاتهم، مما راح يهدد مع انضمامه إلى جهود المقاومة والانتفاضة، باندلاع مواجهات كبيرة ضد الاحتلال والاستيطان. ومن هنا كان التحرك السريع من جانب عباس باتجاه غانتس لإحباط ذلك
وكان لفتح فيها جميعاً نصيب مقدّر يفترض به أن يعوّضها ما ألحقته سياسات عباس بها من أضرار فادحة، ولكنه راح يلبد ما حرثته فتح عندما ذهب إلى لقاء بيني غانتس، والاتفاق معه، بعد تبادل الهدايا، على استمرار التلاقي مع تصعيد التنسيق الأمني، طبعاً إلى جانب حلحلة مالية مقابل ذلك.
هذا اللقاء شكل طعنة في خاصرة فتح التي تململت لتأخذ موقفاً في مواجهة المستوطنين واستفزازاتهم، مما راح يهدد مع انضمامه إلى جهود المقاومة والانتفاضة، باندلاع مواجهات كبيرة ضد الاحتلال والاستيطان. ومن هنا كان التحرك السريع من جانب عباس باتجاه غانتس لإحباط ذلك، وللأسف ليس هنالك من تفسير غير هذا.
حقاً لقد بلغ السيل الزبى، وكان على فتح أن تصرخ، فلم تصرخ.
ولكن السؤال من الجهة الأخرى: ما العمل؟ وما الحل؟ الجواب ببساطة (قبل أن تذهب إجابات شتى كل مذهب): اتركوا عباس وشأنه، فهو كفيل بنفسه يخرب بيته بيديه، واتركوا فتح وشأنها معه، ومع نفسها، فلن تسمع ممن خارجها، ولا تستطيع.
أما في المقابل، فليواصل شباب الضفة المواجهة مع المستوطنين والاحتلال، وليتابع مصلو الفجر العظيم وحُماة المسجد الأقصى مواجهة التحديات الزاحفة لاقتسام الصلاة فيه، وإشعال الشمعدان على أرضه، والاحتفال بعيد "الأنوار".
من لا يذهب في طريق مواجهة الاحتلال والاستيطان والكيان الصهيوني. وهدفه تحرير كل فلسطين، سيجد نفسه على قارعة الطريق
ولتستمر مقاومة سيف القدس في التهيئة لجولة حرب قادمة سيفرض خوضها اعتداءات المستوطنين على الشيخ جراح، وسلوان، والقدس القديمة، والحرم الإبراهيمي، والمسجد الأقصى، وسيتفاقم الاستيطان.
أما حماس وحركة الجهاد والجبهة الشعبية فأمامها أن تتدارس تشكيل جبهة عريضة تفتح لتضم الفصائل والقوى الحيّة، ليس لإعادة بناء منظمة التحرير؛ وإنما لمواجهة تحديّات المستوطنين، والسعي لجولة ثانية من انتفاضات شبابية في الضفة ومناطق الـ48، ولسيف القدس رقم 2.
وبكلمة، من لا يذهب في طريق مواجهة الاحتلال والاستيطان والكيان الصهيوني. وهدفه تحرير كل فلسطين، سيجد نفسه على قارعة الطريق، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
المصدر: عربي 21