كانت انتفاضة الحجارة في أوجها، وذات يوم صرخ رائد السعدي والدموع تبلل عينيه، فزعه يا شباب، الجيش بيكسر بالناس وحتى النسوان في جنين!!! فزعنا شيبا وشبانا وانطلقنا من الحارثية نحو جنين، عبر الشارع الرئيسي، حيث وجدنا المحتل قد انتشر عبره فكانت المواجهة الشعبية حامية الوطيس هناك؛ يا لثاراتك يا جنين. لم تكن فزعة رائد هذه الأولى من نوعها، حتى صار عميداً للأسرى في جنين، وما زال منذ ذلك الوقت يقضي سنوات عمره خلف القضبان.
في تلك الانتفاضة، كانت فزعات القرى المجاورة، خلقاً عاماً اتحدت عليه، فما أن يدب حريق المحتل في منطقة حتى تهرع الأخرى لنجدتها، ولعل أشهر هذه الفزعات، احتضان اليامون لأهل الحارثية المجاورة مع كل نكبة حلّت بها، وأشهرها ثورة الحارثية في شباط وآذار عام 1988م، وهي الثورة التي تحررت فيها سيلة الحارثية من دنس المحتلين فترة من الزمن، وقد استعصت على جيش المحتل أن يدوس طرفها. وفي تلك الثورة كان الشباب المنتفض يهرعون من زقاق إلى آخر في حارة الجرادات نجدة لمجموعة أو بيت تعرض للضغط، وكانت سماعة المسجد توجه هذه الفزعات علانية في تمرد شامل قلّ له مثيل.
وجاءت انتفاضة الأقصى وقد أثمرت حجارة متفجرة بالنار والبارود والأحزمة الناسفة، فظهرت الفزعات العربية، وإن تخللتها مشاجرات مؤسفة محزنة هنا وهناك، لكن الإطار العام للعلاقات في داخل كل قرية أو مخيم، أو بين التجمعات الشعبية والفصائلية، ظل محكوماً بقيم النجدة والشهامة العربية المصبوغة بالقيم الإسلامية عموما، فما كان المحتل يمعن في إيذاء منطقة حتى تهب المنطقة المجاورة للمساعدة، ولعل ملحمة مخيم جنين، خير مثال في ذلك، حيث تبارزت أزقة المخيم، وما جاورها من أحياء المدينة، في رفع الضغط الهمجي الذي استوحش المحتل في فرضه، على المقاومين، بالقصف المتواصل طوال أسبوعين دون توقف، في حصار مطبق نفذته أكثر من 120 دبابة وجرافة، وعشرات الطائرات الحربية، في ملحمة شعبية التحمت فيها أطياف الشعب الذي شكّل حاضنة شعبية للمقاومين بقيادة الجنرال محمود طوالبة وإخوانه زياد العامر ومحمود أبو حلوة، وكثير منهم من خارج المخيم فزع للقتال حتى النفس الأخير، وكان على رأسهم ابن يعبد الشهيد أبو جندل، وابنيّ عرابة القائدين ثابت المرداوي وعبد الحليم عز الدين، وابن الحارثية الشهيد عبد الهادي العمري، وغيرهم كثيرون.
وكانت الفزعة الأعظم في ملحمة جنين، رحلة الخلود التي رسم حروفها الشيخ القائد الشهيد رياض بدير، وقد باع كل ما يملك في بلده طولكرم، واشترى بندقية وزحف نحو جنين ليلتحم مع المقاومين في أعرق التحام إنساني متجرد من كل شؤون الدنيا، وهناك احتضن مقاومة المخيم بهيبته وغربته وتاريخه الجهادي المديد رفيقا للشقاقي في شهور طليعته الأولى، وظل يقود المعارك يفزع هنا وهناك حتى استشهد، ولم يتم اكتشاف جثمانه الطاهر إلا بعد فترة من انتهاء الملحمة حيث وجد يمسك مصحفاً بيد وباليد الأخرى بقايا بندقيته بعد ان قاتلت حتى الطلقة الأخيرة.
وهي الفزعة التي حلّق في سماء فجرها؛ ابن السابعة عشر عاما، ليث السرايا، راغب جرادات، وقد أعيته جرائم المحتل في المخيم، وهو يحرّض أهل السيلة لقطع طرق إمداد المحتل نحو جنين، وهو ما فعله شباب السيلة بشكل شبه يومي طوال الملحمة، حيث اخترق هذا الراغب كل تحصينات المحتل حول جنين، وخرج من الحارثية بطرق لا يعلمها إلا الله، حتى وصل الى حيفا ومن هناك أخذ طريقه نجدة للمخيم، حتى اقترب من مسلخ الجلمة (كيشون) حيث فجر نفسه في باص بعد أن غصّ برجال الشرطة والمحققين المغادرين من هذا المسلخ، ليوقع بينهم ثمانية عشر قتيلا، في تمام العاشر من ملحمة المخيم، ليعلن بأشلائه المبعثرة قرب قبر القسام، سقوط وهم السور الواقي الذي أطلقه شارون لسحق الانتفاضة، وجمرتها الملتهبة في جنين.
وعندما تعرضت جنين لأعظم ضغط عسكري وحشي بعد سلسلة عمليات مميزة في مجدو والخضيرة وعارة، وكان ذروته استشهاد القائد إياد صوالحة، فزعت خليل الرحمن لتخفيف الضغط عن جنين، فكانت ملحمة زقاق الموت؛ أعظم معركة على أرض فلسطين، استشهد فيها ثلاثة من شباب سرايا القدس، وقتل فيها قائد الجيش المحتل في منطقة الخليل، وثلاثة عشر ضابطا وجنديا، ثأراً لإياد صوالحة ولشهداء جنين.
وفي الشهور الأخيرة، رأينا فزعات تلاميذ العموري، دفاعا عن برقين، حيث خرج عشرات الشباب المسلحين ببنادقهم الشخصية، وكان على رأسهم الشهيد علاء زيود ابن الحارثية، الذي فزع للمخيم، ومن هناك كانت فزعة خلوده في برقين، وكان للمخيم أن فزع بشبابه نحو برقين خلال مطاردة الشهيد أحمد جرار، عندما أغلق هؤلاء الشباب، وكانوا بالمئات، طريق برقين –واد برقين خلال خروج المحتل من برقين، حيث استشهد أحد شباب جنين في محاولة المحتل لفتح طريق خروجه.
وهو ما تجدد بالأمس القريب عندما فزعت جنين ومخيمها نجدة للحارثية وهي تصحو على المحتل وهو يتهيأ لنسف أربعة بيوت على خلفية عملية حومش النوعية، وهو ما ترددت أصداءه بما يشبه حالة حرب الشوارع بالرصاص والأكواع المتفجرة والهتافات وقد ملأت الأرجاء، حتى خرج المحتل مذعوراً من هول ما وقع به.
ويبقى الميدان مفتوحاً لكل أنواع التضامن الاجتماعي، خاصة في حالة المواجهة مع المحتل، بما يؤسس لمقاومة تعمدت بشتى أنواع القيم النبيلة وأبرزها نجدة الأخ والجار القريب والبعيد.