شبكة قدس الإخبارية

الإعدام الميداني…معركة تصفية إرادات

thumbgen
حوراء قبيسي

"القتل بهدف القتل" لا يمكن أن يلتقي مع مفهوم الردع الذي يأتي في سياق "الإدراك" اليقظ للعوامل المؤثرة، هو أقرب إلى ضربات التنكيل منه إلى العمل العسكري الأمني. فلا الجريح الغائب عن الوعي في مثل حالة الشهيد عبد الفتاح الشريف، ولا الشهيد مصطفى يونس المصاب بداء الصرع؛ الذي أعدمته قوات الاحتلال أثناء خروجه من المستشفى كانا ليشكلا خطراً على الجندي الصهيوني المدجج.

كما لا يمكن تأطير "الإعدام الميداني" في معالجة عبثية، بل يقع ضمن سياسة ممنهجة، لخلق حالة من الترهيب والخوف في الشارع الفلسطيني بإعدام روحية المواجهة والاشتباك، مردّه تفكيك عقدة قوات الاحتلال لإثبات الكفاءة والأهليّة في التصدّي للمخاطر. القاعدة هنا ببساطة، اختصرها قول أفيغدور ليبرمان وزير خارجية الاحتلال السابق "جندي مخطئ على قيد الحياة، أفضل من جندي متردد يقتله مخرّب".

معادلة ترهيب لا خطر

إلا أن المشكلة ليست في أوامر إطلاق النار العامة، التي تحتكم لقواعد الموازنة المنطقية بين الخطر وتحييده، فبينما يخضع "التحييد" هنا، لشروط أولّها بيان الخطر بملامح واضحة، يتبعه تحذير بالتوقف (باللغة العربية ثلاث مرات)، بعدها يطلب من المشتبه به التعريف عن نفسه، وإذا لم يتلق جوابا يصدر الجندي تحذيراً مبكراً بإطلاق النار، وأخيراً يطلق رصاصتين بزاوية 60 على رجلي المشبوه، وفي حال ثَبُت أن هذا الشخص يشكل خطراً على حياة رجل الأمن أو حياة المستوطنين، بإمكانه هنا فقط أن يصوب بندقيته إلى مركز الجسم.

أما سياسة "التحييد" بمعيارها الحالي، فيكفي أن تنظر شزرًا إلى جنود الإحتلال، أو تقوم بحركة جسدية سريعة، أو تتفوه ببضع كلمات عربية ليصدر الجندي فتوى بإعدامك ميدانياً. أو ما يتعدى ذلك إلى اعتبارات مردها الملل، أو استشعار مستقبلي تفرزه عقلية الجندي الإسرائيلي القائمة على صيغ التخوف المبالغة، تدفعه للتحرك وايقاف السيناريو المرعب بإطلاق النار للقتل والقتل فقط. ودائماً بذرائع جاهزة ومعدّة مثل محاولات الدَّهس أو الطعن.

كإعدام الشهيد أسامة صدقي منصور في نيسان الماضي، وإصابة زوجته بالرصاص، على حاجز قرب قرية بيرنبالا في الضفة، بحُجّة جاهزة؛ "محاولة دهس جنود"، بينما أكد الجنود أنفسهم أن السائق توقّف للتفتيش، ثم زعموا بأنه تحرَّك فجأة وحاول دهس الجنود على الحاجز، بينما قالت زوجة الشهيد "طلبوا منا أن نتحرك بعد إيقاف السيارة، وأثناء تحركنا أطلقوا علينا وابلا من الرصاص الحي وأصيب زوجي برصاصة قاتلة في رأسه". لكن كيف يعقل أن هناك من يخطِّط لعملية دهس يأخذ زوجته معه، ثم يتوقف للتفتيش؟ علماً أن ذلك من شأنه يخفّف من قوة الصدمة الافتراضية للجنود، وهو الذي يدرك جيداً أن عملية كهذه مصيرها مقرون بالاستشهاد. فضلاً عن أن المخطط لعملية دهس (إذا ما رصدنا سيناريوهات عمليات الدهس السابقة) لا يتطلب تنفيذها الوصول إلى نقطة التفتيش إذا كانت النية حقاً القيام بالعملية.

"قرش شدمي"

يخرج من المواجهات حياً، قد لا ينجو من حكم عناصر الأمن، أو الشرطة، أوحتى المستوطنين بالإعدام الميداني، بحجّة أو من دونها طالما أنهم يتمتعون بحصانة المنظومة القانونية والإيديولوجية القومية، وطالما أن قرار الإعدام هو ابن لحظته، ونتاج تذويب ممنهج لمبدأ "إهدار الدم الفلسطيني" في الذهنية الإسرائيلية. وإلا كيف يفسر حاملو رخص القتل هؤلاء إعدام الشهيد إياد الحلاق (المصاب بالتوحد) أثناء توجهه إلى مؤسسة تعليمية في القدس تُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة؟ إن استتر القتل هذا خلف الخطأ أو حتى التهور، فهو في الحالتين يُفتى بشرع الصهيونية حلالا؛ يتولى القضية جهاز يُعنى بإخفاء الأدلة والتلاعب بالبيانات وتغييب الشهود، أما في حالة الشهيد حلاق فقد أحرقت الكاميرات التي وثقت عملية إعدامه، لأن الذريعة المعتادة؛ أي محاولة تنفيذ عملية طعن، تقع خارج خيارات الطق كون الشهيد يعاني رهاباً اجتماعياً، ولعل السبب في إعدامه يعود إلى حركاته الجسدية الغير المنضبطة.

خلافا للطرح المعلن الذي يروج باستنفاذ إسرائيل للمسار القضائي العسكري والمدني مع الجنود والمستوطنين ممن "توثق" ارتكابهم لإعدامات ميدانية بحق الفلسطينيين، يجزم المتحدث باسم "كتلة السلام الآن" آدم كلير بأن هناك شبه إجماع إسرائيلي على شرعنتها "إذ تأتي المحاكمات بتل أبيب لتفادي تحريك دعاوى ضد الجنود والمستوطنين بالمحافل الدولية، وما يحصل على المستوى السياسي والعسكري ما هو إلا تلوّن وأشبه بمسرحية، فمن ناحية معسكر اليمين يوظف المحاكمة وقتل الفلسطينيين لتحقيق مكاسب سياسية، بينما يسعى الجيش لتلميع صورته على أنه الجيش الأخلاقي، لكنه بأحكامه وإجراءاته يقول للجنود اقتلوا الفلسطينيين لكن بعيدا عن الكاميرات".

وفي أسوأ الحالات فإن الجندي القاتل يعرف أن ما ينتظره هو "قرش شدمي"، نسبة إلى الضابط الصهيوني، يسخار شدمي، الذي اتخذ قراراً بقتل 49 شهيداً في مجزرة كفر قاسم عام 1956، بحجة خرق حظر التجول (الذي لم يكونوا على علم به أصلاً) وتمت تبرئته وفرضت عليه غرامة قرش واحد.

يُصرف الآن "قرش شدمي" على تعتيم الحقيقة بمسار قانوني شكلي، يتم بموجبه احتجاز الجندي عند أجهزة الاحتلال، لدواعي أمنية، تتعلق بحمايته، وتسقط عنه التهم القضائية بمبررات تتعلق بأمنه وسلامته، ثم

يسوّق كبطل قومي، أو يتم المتاجرة بالقضية سياسياً. كما حدث مع الشهيد يعقوب أبو القيعان، الذي أعدم برصاص المفتش العام للشرطة روني الشيخ في قرية أم الحيران في النقب، وجرى التستر على الحادثة بادعاء انتماء الشهيد إلى داعش، بالرغم من اعتراف الضابط نفسه (روني الشيخ) بأنّه لم يكن يشعر بأي خطر حقيقي على حياته حسب تقرير مفصل لصحيفة "هآرتس" العبرية في 18 كانون الثاني 2017. ليعاد اجترار عملية الإعدام بعد 3 سنوات بتوظيف سياسي من قبل نتنياهو، الذي أقدم في سبتمبر عام 2020 على الاعتذار من عائلة الشهيد يعقوب أبو القيعان "أود أن أعبر، باسمي، عن اعتذاري لعائلة أبو القيعان، قالوا (الشرطة) إنه إرهابي، أمس اتضح أنه لم يكن ارهابيا"، لكن اعتذاره لم يخرج بشكله العلنيّ إلا لمناطحة الشرطة والنيابة، بهدف الطعن في نزاهة ملفات الفساد المتهم بها، لا إحقاقا للعدالة كُشفت، إنما توظيفاً لدم الشهيد من أجل التملص من المحاكمة.

الإسقاط نفسه طبّق بمنهجيته المعتمدة على عملية الإعدام الميداني الأخيرة في في منطقة باب العامود وسط القدس بحق الشهيد سليمة في الـ 5 من الشهر الجاري، على الرغم من أن موقع "تايمز أوف إسرائيل" أفاد أن "الحادث الذي قالت الشرطة إنه يشتبه في أنه هجوم إرهابي، تعرض لمزيد من التدقيق بسبب مقطع فيديو من مكان الحادث يظهر الضباط يطلقون النار على المشتبه به عدة مرات عندما كان ملقى بالفعل على الأرض"، إلا أن المسؤولين الإسرائيليين حشدوا لتمييع هذا الفعل الإجرامي بجوقة من الحماة السياسيين، تصدرهم رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، بتغريدة جاء فيها: "الجندي والجندية، تصرّفوا بشكل سريع وحازم، أنا أطلب مدّهما بالدّعم الكامل، هذا كان المتوقع من جنودنا وهكذا هم فعلوا"، أما لابيد، وزير الخارجية الإسرائيلي، فكتب: "أدعم قوات الأمن وعناصر حرس الحدود الذين تصرفوا بسرعة وحزم".

الموقف نفسه شدد عليه وزير الأمن العام الإسرائيلي، عومر بارليف، بتصريح لإذاعة الجيش الإسرائيلي: "كلّ الحوادث كان من الممكن أن تقع، لقد تصرفوا بشكل صحيح". كما وصف مفتش شرطة الاحتلال الإسرائيلية، أفراده الذين قاموا بإعدام الشهيد سليمة بـ"الأبطال"، مؤكدا لعائلاتهم أن "الشرطة ستقدم لهم الدعم القانوني".

"تخيّلها أختك"

ما يحدث هنا، قد يساق وفق مسار الاحتلال للتنكيل بأصحاب الأرض، إلا أنه لا يوظف بعيداً عن سياسية تدفيع الأثمان، التي تقتحم المشهد في كل مرة يقرأ جهاز الأمن الإسرائيلي سيناريو استنساخ هبة، أو تراكم ملهم لعمليات فردية، كالتي نشهدها منذ أواسط تشرين الثاني الماضي، باستراتيجية مضادة، تستوجب رفع مستوى الجهوزية والتأهّب على الحواجز والمعابر، بهدف وأد حافزية استلهام الفعل النضالي عند الفلسطيني بتفعيل الإعدامات الميدانية. ولسياسة التصفية هذه، تفضيل ضمني عند قوات الاحتلال، أولا لخلو العملية من أي مواجهات، ثانياً بإبعاد أي قلق أمني قد يتحول إلى خطر بحق الجنود الإسرائيليين، وأخيراً بوجود غطاء قانوني حاضر من دون الحاجة للخوض في أي محاكمات علنية.

لكن بتتبع مسار الصراع، يعالج الفلسطيني الإعدام الميداني بمفردات مغايرة عن العقلية الأمنية الإسرائيلية، بأخرى تستدعي استنهاض النضال لا إخماده. إذ لا يصنّف عمليات الإعدام الميداني إلا ضمن أعتى مشهديات الظلم، بترخيص الدم الفلسطيني واستباحته، بما يفوق استشهاد أحدهم في عملية مخططة يدرك الجميع أنه اختار بذلك شهادته.

لذا انبثقت عن عمليات الإعدامات الميدانية اشتباكات وهبّات، بالإضافة إلى ما عرف بلجان القنص، وشهداء النخوة، كالشهيد رائد جرادات الثائر لدم الشهيدة دانيا إرشيد (16 عاماً)، التي تم تصفيتها قرب المسجد الإبراهيمي أثناء ذهابها لتأدية الصلاة والدعاء لاجتياز مرحلة الثانوية العامة عام 2015، ثم تركتها قوات الاحتلال تنزف أمام كاميرات دون السماح بتقديم الإسعافات. ليثأر الشهيد جرادات في اليوم التالي لدمها بعملية طعن عند بيت عينون في الخليل، طاعناً كل نظريات الترهيب الإسرائيلي وسياسات إخماد الفعل المقاوم بمنشوره الأخير على صفحته: "تخيّلها أختك".