لا يخفى على أحد ما آلت إليه مدينة الخليل من أحوال مؤسفة ومن اقتتال داخلي وفلتان أمني طال الصغير قبل الكبير، وهي ليست الحالة الأولى أو الاشتباك الأول بين هذه العشائر التي سرعان ما تخمد لهيب الحرب حتى تشتعل مجددا معها ومع عائلات أخرى.
شهدت مدينة الخليل تصاعداً شعبياً غير مسبوق رفضاً لحالة الفلتان الأمني مما استدعى رجال العشائر وكبار هذه البلد إلى عقد اجتماعات متتالية ومكوكية من أجل ضبط هذه الحالة التي تنذر بخطر وشيك على كل الأصعدة الاجتماعية والأمنية والاقتصادية، التحذيرات الأمنية التي انطلقت من الخليل وخاصة على لسان رئيس إقليم فتح وسط الخليل باستعداده لنشر ٢٠٠ مسلح لحفظ الأمن، كانت نذيرا بأن تستدعي رئيس الحكومة محمد اشتية للحضور شخصيا إلى المدينة برفقة وزراء الحكومة وعقد جلسته فيها.
أقرت الحكومة حزمة من المشاريع الاقتصادية الجديدة والتي تصل ميزانيتها على الورق إلى ٣٠ مليون دولار، وزيادة عدد أفراد الأمن لحفظ سيادة القانون، هذه القرارات التي لم تتجاوز الورقة التي كتبت عليها اندثرت مع رياح، حيث لم يرَ الفلسطيني هذه الملايين ولم تمكث قوات الأمن الجديدة التي أفرزت زيادة لمدينة الخليل سوى عدة أيام.
ولكنها معادلة قديمة جديدة متمثلة بمحاولة السلطة إسكات الأهالي عن هذه الحالة الأمنية المتردية بالوعود حول الدعم الاقتصادي، في مقابل غياب أي إجراء جاد وحقيقي لتحسين الأمن، أو حتى حماية مصالح الأهالي على أرض الواقع حيث تركت الأجهزة الأمنية مدينة الخليل ساحة فارغة للعناصر المسلحة يحرقون ويطلقون النار بحجة وجود تنسيق أمني (صفر- صفر) وهو اقتحام الاحتلال للمدينة.
وهنا يظهر السؤال الحقيقي الذي يدور في عقول الجميع ما دور الاحتلال في هذا الفلتان؟ و أين هذا السلاح أمام العدو!
الحقيقة أن هذا السؤال له مفاهيم كبيرة ودلالات واسعة تقودنا بالدرجة الأولى إلى فهم العقلية الأمنية الإسرائيلية التي تُشرف على مدينة الخليل بشكل حثيث وخاصة بعد الضربات الأمنية الموجعة التي نالت من هيبة وكيان الشاباك ودولة الاحتلال ومرغت أنفه في التراب والحديث هنا يدور خاصة عن الضربة المؤلمة في عام ٢٠١٤ وخطف الجنود الثلاث.
دائماً ما مثلت مدينة الخليل للاحتلال أولوية أمنية واهتماما بالغاً وضرورة ملحة للتعامل معها بشكل حقيقي، من تكتيكات أمنية استخباراتية المختلفة للتعامل مع عناصر المقاومة مثل عمليات قص العشب إلى نبش القبور وصولا إلى تجفيف المنابع.
ولكن هذه المرة كان المطلوب ضرب أساس وعصب المدينة المتمثل بضرب الهوية الوطنية الفلسطينية وحاضنة المقاومة وتقويض أي أسس لنشوء حالة مقاومة أو سلاح مقاوم، وذلك من خلال ضرب النسيج الاجتماعي وإشغال العائلات ببعضها وهو ما يصب في إطار مقولب وبظاهر دعم النظام العشائري المترسخ في المدينة والذي يحظى بقوة وهيبة وتخوف من المساس به من قبل الأهالي.
النظام العشائري جعلوه مدخلاً لحل تلعب فيه السلطة دور المتواطئ مع الاحتلال من خلال تجنب الصدام مع العشائر وإبرام اتفاقيات مبطنة لضمان نفوذ حكومي مقابل ولاء كامل من قبل العشائر للسلطة والاحتلال وهو التعهد بعدم المساس بأمن الاحتلال أو مستوطنيه.
العقلية الأمنية الجديدة في الخليل تتمثل بغض الطرف عن فوضى السلاح والإتجار به وتداوله وتكديسه بيد العشائر، وذلك بضمان عدم رفع السلاح إلا بوجه الفلسطينيين أنفسهم من خلال الحفاظ على استمرارية مراكمة المشاجرات العائلية وقضايا الثأر والاقتتال الداخلي وهو ما يبرع به الاحتلال من خلال أياديه الخفية والهاء الخليل بها.
هذا الأسلوب المقتبس والمعدل من التكتيك الذي يتعامل به الشاباك مع القرى العربية في الداخل المحتل والذي يحفظ به ميزان الأمن في الداخل وضمان عدم تنمية أي عمل مقاوم ضد المحتل، يتعامل به الآن في الخليل بطريقة معدلة وموسعة.
وقناعة الشاباك بضرورة إشباع رغبات شبان تلك العائلات لغريزتهم في اقتناء السلاح وإطلاق النار خلال الشجارات يبعدهم عن الانخراط في التنظيمات الفلسطينية لمواجهة الاحتلال.
هذا السلاح مقيّد بالقانون العشائري المبطن لذلك يعتبر حامله لا يملك قراراً مستقلاً يستطيع التصرف به، وفي حال حدوث أي خطأ فردي كإطلاق النار على الاحتلال فإن الشخص يتحمل وحده مسؤولية فعلته ولا يمكن لعائلته أن تبارك عملية ابنها، وإذا ما أظهر حتى بوادر تمرد تتسارع السلطة والاحتلال لشن حملة ضد من يُعتبر خارجاً عن القانون أو خطيراً على أمن المنطقة.
هذا السلاح الذي صرح مدير قسم التحقيق في جهاز الاستخبارات العسكرية التابعة للسلطة عبد الكريم وادي أنه 99 بالمائة من السلاح الموجود في الضفة الغربية يستخدم في الخلافات العائلية والنزاعات الشخصية، فيما يستخدم الـ 1 بالمائة فقط لمقاومة الاحتلال، لافتاً إلى أن السلاح الموجود يشكل خطراً على المجتمع وليس الاحتلال.
هذه العقلية الأمنية التي استطاعت ترويض الخليل من خلال اعتقال الشرفاء والقضاء على بذور المقاومة والسماح بتنامي سلطة العشائر وانتشار فوضى السلاح، وتدفيع ثمن باهظ لكل من يفكر بتغيير بوصلة هذا السلاح المؤسس والمؤطر لمواجهة أبناء شعبه فقط.
يجد السلاح طريقه إلى الخليل بشهية مفتوحة وبتسهيلات أمنية وتحت أعين الشاباك الذي يضمن الإتجار به في إطار حلقة محكمة ومضمونة لا يخرج منها، عمليات تهريب منظمة ويشرف عليها سواء من داخل الضفة أو من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ٤٨ أو حتى من الأردن.
حيث تشير بعض الإحصائيات غير الرسمية إلى أن الضفة يوجد بها بين 70 و100 ألف قطعة سلاح من أنواع مختلفة وفي مقدمتها قطعة الـ (M16) الإسرائيلية الصنع، 26 ألف قطعة منها تابعة لأجهزة السلطة فقط، ناهيك عن ملايين الطلقات النارية لتلك الأسلحة.
ولأن الكيانات العشائرية تستطيع الحفاظ على نفسها من عوامل التعرية والزمن، على عكس التنظيمات والأحزاب السياسية التي تتأثر بالعوامل الداخلية الخارجيـة، استطاع الاحتلال بشكل أو بآخر التحكم بساحة الخليل التي زاد شهية اقتناء السلاح بها، وازدادت عمليات الاقتتال الداخلي لأسباب مختلفة.