جرت طوال الأشهر الماضية محاولات عدة لتعديل حكومة د. محمد اشتية، ووصلت إلى حد تسمية وتداول عدد من الأسماء وإبلاغهم بموعد تنصيبهم وحلف اليمين، وإعلام الوزراء الذين سيخرجون من الحكومة، لدرجة شهدت منصات التواصل الاجتماعي حملات التهنئة للوزراء الجدد، والتعزية والتضامن أو الشماتة ممن سيغادرون "الجنة "الوزارية، وانتهت المحاولات إلى بقاء الحكومة على حالها، حتى من دون ملء حقيبتي الأوقاف والداخلية الشاغرتين منذ تشكيل الحكومة قبل 30 شهرًا.
صراع مبكر على الخلافة
يقود التمعن في سبب أو أسباب عدم تعديل الحكومة إلى سببين أساسين: الأول، الخلاف والتنافس، بل الصراع بين مراكز القوى في السلطة وحركة فتح على الخلافة، خصوصًا أن ما يجري من تعديلات وتغييرات سيرسم معالم الخارطة الداخلية للسلطة التي ستحكم المرحلة القادمة، لا سيما بعد الحديث الصاخب عن سلسلة واسعة من التعيينات تشمل عددًا كبيرًا من المحافظين والسفراء وقادة الأجهزة الأمنية، لينتهي الأمر بتعديلات محدودة، آخرها تعيين يوسف الحلو قائد لجهاز الشرطة خلفًا لحازم عطا الله. فعلى ما يبدو أن إجراء تعيينات بالجملة متعذر، واستعيض عنه بتعيينات بالمفرق.
أما السبب الثاني فيعود إلى أن تعديل الحكومة لا يكفي لتجاوز ما تواجهه من وضع حرج على مختلف المستويات والمجالات، أهمها انعكاس صراع الخلافة عليها، وهو انعكاس للمأزق العام الذي يظهر في خفض السقف السياسي للسلطة إلى مستوى خطة "بناء الثقة" ضمن معادلة بقائها، مقابل التنسيق والتعاون الأمني من دون أفق سياسي، وهذا يفقدها مبرر وجودها، فالسلطة جاءت كمرحلة انتقالية لتحل الدولة محلها، وهو هدف بات أبعد مما كان عليه قبل تأسيسها، وهي تواجه مشاكل وقضايا كبيرة لا تحل إلا بتشكيل حكومة جديدة ضمن رزمة شاملة، وتشكيل حكومة جديدة هدف تلتقي عليه أطراف محلية وخارجية لأسباب مختلفة. أما الفلسطينيون فهم بحاجة إلى تغيير جوهري وعميق، على أساس رؤية شاملة، وإستراتيجية موحدة، ورزمة شاملة، من ضمنها تشكيل حكومة وحدة تنهي الانقسام وتحضر لإجراء الانتخابات.
ما سبق يقودنا إلى ما يجري الحديث عنه حول تشكيل حكومة وحدة وطنية أم حكومة تكنوقراط، خصوصًا ما جرى تداوله نقلًا عن مصادر إسرائيلية (تقرير صحيفة هآرتس، وتصريحات إيهود يعاري، مراسل القناة 12 للشؤون السياسية) حول أن الإدارة الأميركية طلبت من السلطة، وخصوصًا في اللقاء بين مبعوثها هادي عمرو والرئيس محمود عباس، تشكيل حكومة تشارك فيها حركة حماس، أو حكومة تكنوقراط توفر لها "حماس" الغطاء، شرط قبولها في كل الأحوال بشروط اللجنة الرباعية.
أصل الحكاية ... تشكيل حكومة بعد تأجيل الانتخابات
بدأت القصة عندما أبدت السلطة الاستعداد، بعد تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، لتشكيل حكومة وحدة وطنية تقبل بالشرعية الدولية تارة (الاسم الحركي لقبول شروط الرباعية الدولية)، وبالاتفاقيات تارة أخرى، وهذا شرط تعجيزي، لأن "حماس" التي زادت شعبيتها بعد معركة سيف القدس لا يمكن أن تقبل ما رفضته قبلها، خصوصًا وهي ترى أن قبول شروط الرباعية لم يؤد إلى تجسيد الدولة، وإنما إلى تأبيد السلطة وتقزيم دورها، كما أن هذا الشرط عجيب غريب ،خصوصا بعد إنذار العام، وتهديد الرئيس بعده بسحب الاعتراف بإسرائيل واعتماد خيارات جديدة، مثل قرار التقسيم والدولة الواحدة والحماية الدولية واللجوء إلى المحاكم الدولية، ما أغضب إدارة بايدن التي طالبت بالكف عن هذه التهديدات وتأكيد الالتزام بالاتفاقيات.
في المقابل، "حماس" بدلًا من البناء على ما تحقق بعد معركة سيف القدس وتقديم مطالب واقعية، طرحت سقفًا عاليًا من خلال تجنب مسألة تشكيل الحكومة، والمطالبة بالبدء بتشكيل قيادة انتقالية لمنظمة التحرير، وتعيين مجلس وطني لمدة عامين، وهذا شرط تعجيزي أيضًا، فلا يمكن أن تقبل "فتح" دخول "حماس" المنظمة وهي تسيطر سيطرة انفرادية على قطاع غزة، أو التوجه نحو انتخابات وهي تعرف أنها غير ممكنة فورًا، فما سمح بالاتفاق على الانتخابات هو تفاهمات إسطنبول التي تمثل محاولة لضمان نتائجها قبل أن تحصل، وبما يضمن بقاء الانقسام وإدارته، وعندما ووجهت هذه التفاهمات بمعارضة داخلية وخارجية كبيرة أطاحت بها، ما أدى إلى تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى.
وطُرِحَ موضوع تشكيل حكومة جديدة بقوة أكبر بعد هبة القدس والداخل ومعركة سيف القدس، لكي تكون العنوان الشرعي الذي يسمح بإعادة الإعمار وتثبيت التهدئة، ومنع انزلاق الوضع إلى مواجهة عسكرية جديدة لا أحد يريدها، كحل لمعضلة أن السلطة المعترف بها دوليًا لا تقدر على تجاوز سلطة الأمر الواقع.
بدعة التكنوقراط
كانت السلطة متمسكة في السابق بتشكيل حكومة تكنوقراط كما حصل فعلًا بحكومة د. رامي الحمد الله الثانية التي شكلت بعد إعلان الشاطئ في العام 2014، ومن ثم أصبحت عقب تراجع قوة السلطة وشعبيتها بعد تخلف قيادتها عن قيادة الشعب الفلسطيني في معاركه ضد الاحتلال، متمسكة بتشكيل حكومة وحدة وطنية توافق على الشرعية الدولية كمبرر لرفضها عمليًا، لأنها لا تريد وحدة من موقف ضعف، وتخشى كما نقل عن مسؤول فلسطيني من أن الجهد الأساسي المتمثل في التحرك الدولي والأميركي والعربي الحالي موجه نحو تحقيق الهدوء في القطاع، مقابل إعادة الإعمار وتقديم تسهيلات إنسانية واقتصادية ومدنية تشمل الضفة.
أما بالنسبة إلى الضفة فلا خطة بالأفق، وظهر ذلك جليًا من خلال تبني الإدارة الأميركية لموقف حكومة نفتالي بينيت الرافض لما يسمى حل الدولتين، ولأي مفاوضات ذات أفق سياسي، لدرجة أن هادي عمرو أجاب الرئيس عباس عندما سأله عن موعد تنفيذ الوعد الذي قطعه الرئيس جو بايدن في الحملة الانتخابية وأكده مرارًا بعد فوزه حول فتح القنصلية الأميركية في القدس، بأن الجواب في مكتب بينيت، ما يعني عدم فتحها، وإذا فتحت لن تملك دورها السابق، وإنما ستكون جزءًا من السفارة الأميركية، وهذا ينطبق على عدم فتح مكتب المنظمة في واشنطن واستئناف المساعدات الأميركية للسلطة، في حين منت السلطة نفسها بأنها ستخرج الرابح بعد ما جرى في أيار الماضي، الذي مثل تهديدًا جديًا لها، خصوصًا بعد تصريحات بايدن عن شرعية الرئيس عباس، وتغطية قرارها بتأجيل الانتخابات، والحديث عن السلطة كعنوان وحيد لإعادة الإعمار.
وما حصل بعد ذلك أن كل المطلوب من السلطة أن تشكل حكومة وحدة أو تكنوقراط توافق على شروط الرباعية لا تغير من الواقع شيئًا (وتقوم مثل ذكر النحل الذي يلقح ملكة النحل ويموت)، ويبقى الانقسام على حاله، وتستخدم الحكومة الجديدة أساسًا لتمرير ما يُتفق عليه مع "حماس" التي تقود سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة.
وسيكون موقف السلطة مفهومًا برفض أن تكون جسرًا لا أكثر، لولا الشرط التعجيزي الذي تضعه، وعدم الاستعداد بأي حال للشراكة، فإما أن ترضا "حماس" بأن تكون ملحقًا بها أو يبقى الانقسام، وهذا يحملها مسؤولية أكبر عن استمرار الانقسام.
لا يعني ما سبق أن "حماس" في وضع أفضل كثيرًا، فهي تعطي الأولوية لبقاء سيطرتها على القطاع، لذلك تستبعد مسألة تشكيل الحكومة، وإذا شُكِّلت لن يكون من مهامها إنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات، كما أُدخِلت هي الأخرى في دوامة البحث عن عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل سيف القدس، ومضت أكثر من أربعة أشهر حتى الآن من المفاوضات غير المباشرة دون حدوث اختراق أو حتى تقدم حقيقي، فالمطلوب منها خفض سقفها، والرضا بتهدئة طويلة مقابل إعادة الإعمار وتخفيف الحصار وعودة السلطة في المرحلة الثانية إلى القطاع، ولو لتكون مجرد طربوش يساعد على تجاوز عدم الاعتراف الأميركي والإسرائيلي بحماس.
الحل ... شراكة كاملة وحكومة وحدة وطنية
في ظل انسداد الأفق لا يزال الحل الوطني بعيدًا عن متناول اليد، رغم وجود نافذة صغيرة جدًا للأمل نابعة من عدم تحقيق كل طرف لما كان يريده، واتضاح أنهما وإن بشكل متفاوت مستهدفان من الاحتلال، وهو يتحقق من خلال تجسيد شراكة كاملة وحقيقية، على أساس المصالح والمبادئ وتوازن القوى الراهن، من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية على أساس برنامج وطني بعيدًا عن شروط اللجنة الرباعية، لأنها تملك القوة لتنفيذ ما يتفق عليه من خلال مشاركة ممثلي الفصائل، خلافًا لحكومة التكنوقراط التي لا وزن لها وبلا برنامج سوى مواصلة برنامج أوسلو الميت إسرائيليًا منذ وقت طويل.
وتكون هذه الحكومة قادرة على التعامل مع المجتمع الدولي، ضمن حل الرزمة الشاملة، الذي يطبق بالتوازي والتزامن، ويتضمن إعادة بناء مؤسسات المنظمة، وتشكيل قيادة جديدة تضم مختلف ألوان الطيف السياسي، وتغيير السلطة، ووضع خطة عاجلة للتخلص من التزامات أوسلو، لتكون السلطة أداة بيد المنظمة الموحدة، وإجراء الانتخابات بصورة منتظمة على مختلف المستويات والقطاعات من دون الخضوع لقرار الاحتلال.
بتنا في وضع غريب غير مسبوق ففتح وحماس لا تريدان تشكيل حكومة كل لأسبابه، لمحافظة كل طرف بما لديه وخشية من فقدانه، فلم يعد الحصول على مكاسب جديدة أمرًا كبيرًا كما كان في السابق، لذلك يطرح كل منهما شرطًا تعجيزيًا لبقاء الوضع على حاله إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
ويظهر موقف "حماس" بما جاء في بيان مكتبها السياسي، الذي دعا إلى تشكيل قيادة انتقالية، وهذا صعب جدًا الاتفاق عليه، ولا يكفي وحده؛ أو الذهاب إلى الانتخابات المتعذرة تحت الاحتلال والانقسام إلا باتفاق محاصصة ثنائي جديد، ويبدو بعيدًا عن التحقيق، والهوة كبيرة بين الموقفين، وزادت عما كانت عليه، والضحية هو القضية، والشعب الذي تزداد معاناته، وطنيًا واقتصاديًا وحياتيًا، وهذا يسمح لإسرائيل بالتلاعب بالطرفين.
في ظل الانقسام لا يوجد تقدم حقيقي، ولن يكون، بل هناك سلطتان متنازعتان متنافستان ضمن معادلة بقاء السلطة في الضفة مقابل التعاون الأمني، وتهدئة على أساس اقتصاد مقابل أمن في قطاع غزة، مع مراعاة الفروق المهمة بينهما. فلم يكن ممكنًا استثمار الصمود والمقاومة الباسلة في معركة سيف القدس في ظل الانقسام، ووضع توقعات عالية زادت الهوة هنا وهناك.