على الرغم من صدور قرار من المحكمة المركزية للاحتلال في القدس بإلغاء قرار سابق لمحكمة الصلح يتيح للمستوطنين أداء ما يسمى الصلوات الصامتة داخل ساحات المسجد الأقصى، فإن هناك صوراً تناقلتها وسائل الإعلام يوم أمس يظهر فيها مستوطنون يهود وهم يؤدون صلواتهم التلمودية في ساحات الأقصى، وهي ليست المرة الأولى.
هذا يعني أن التراجع عن القرار كان مجرد إجراء مخادع وشكلي، الهدف منه محاصرة آفاق ردود الفعل عليه، بعدما تبيّن أن الغضبات الفلسطينية الفعلية تتركز في الاحتجاج على ما هو ظاهر ومرئي ومعلن من سياسات تهويدية صهيونية تجاه الأقصى.
ويبدو هنا أن الاحتلال قد قرر ممارسة التهويد الصامت للمسجد الأقصى، بدليل حدوث اقتحامات يومية لساحاته، دون أن تثير ردود أفعال كبيرة، رغم أنها تترافق مع أداء لصلوات يهودية، أي إن التقسيم الزماني والمكاني للأقصى في طريقه للتبلور، لكنه يجري بالتدريج، وضمن خطة ممنهجة، يصبح معها المستهجن مألوفاً مع تكراره ثم فرضه واقعا.
صحيح أن هبة باب الأسباط عام 2017 قد أسقطت قرار تركيب البوابات الإلكترونية وأجبرت الاحتلال على إزالتها، وصحيح أن معركة سيف القدس هذا العام قد أفشلت الاقتحام الصهيوني الجماعي الكبير للأقصى أواخر رمضان وبددت مسيرة الأعلام التي حشد المستوطنون لها طويلا، لكن هذه الجولات المشرّفة في الدفاع عن الأقصى لم تتكفل حتى الآن بتحييد الأخطار التي تتهدد الأقصى بالكامل، ولا بإيقاف عمليات الاقتحام اليومية لساحات المسجد، ولا سيما أن هذه الاقتحامات ليست إجراءً روتينياً شكلياً بل هي سياسة تمهّد لما هو آت، ولمخطط كبير يستهدف وجود المسجد الأقصى، وينتظر فرصة مواتية لكي يتجلى واقعاً غير قابل للدفع، وحينها لن تجدي ردود الأفعال نفعاً مهما عظمت.
قضية الدفاع عن المسجد الأقصى اليوم ينبغي أن يرتفع الاهتمام بها لتصبح الأولوية الأساسية على أجندة الاهتمامات الوطنية، ذلك أن تهويده التدريجي الصامت يشكل أولوية للمشروع الصهيوني، وتبذل لأجله تجمعاته الدينية مالاً وجهداً ووقتاً وتخطيطاً، واستباق هذه المخططات بات ضرورياً على المستويات كافة، سياسية وإعلامية وميدانية، وهذا يلزمه تعبئة معنوية عالية للجمهور الفلسطيني، تجمع ما بين التوعية بالأخطار والتهيئة النفسية لمواجهتها، وصناعة الدافعية والاستعداد لهذا الغرض.
هذه معركة جوانبها متعددة، ويسع أكثر الجمهور أن ينخرط فيها، بعيداً عن التلاوم والبحث عن شماعات لتحميلها وزر التقصير، ويلزمها تركيز في الخطوات وتوحيد في الجهود وعدم تشتيتها، ولا بدّ لها أن تُخاض فيما عين على محطات الإنجاز السابقة التي أسهمت في تراجع الاحتلال، وأخرى على مخططاته الجارية وما تتطلبه من وعي وإبصار، وتجنب للوقوع في فخ التكاسل والتواكل أو الركون إلى فرضيات تحمل على القناعة بأن الخطر قد فارق المسجد الأقصى.
حين نقول إن القدس كانت وستبقى قلب صراعنا وعنوان معركتنا ورمزية هويتنا الأهم، لا بدّ أن نترجم ذلك فعلاً واهتماماً وإدراكاً لواجباتنا المختلفة تجاه القدس والمقدسات، لأن غفلةً عن هذه الواجبات في لحظة اغترار بما لدينا، أو استهانة بمخططات أعدائنا قد تضعنا فجأة أو تدريجياً أمام ذلك الخطر وقد تحول لمنجَز صهيوني، في حين قد يكون ما في جعبتنا حينها من ردود باهتاً وضعيفاً وعاجزاً عن التغيير.