أحمد زهران، وزكريا بدوان، ومحمود حميدان.. ثلاثة شبان من قرية بدّو، إحدى بلدات ضواحي القدس من جهتها الشمالية الغربية، ولكنها واقعة خارج الجدار العازل للمدينة، فهم مقدسيون، ولكنهم لا يحملون الهويات المقدسية، ولا يمكنهم الوصول إلى القدس إلا بالمغامرة المحفوفة بالشهادة أو الاعتقال. وهذه واحدة من التعقيدات التي يعانيها الفلسطينيون، وتحتاج وقتا لشرحها لغير الفلسطينيين، بل ولفلسطينيين لا يعيشون التعقيدات عينها، وهو أمر يدعو بعضنا، خشية من الالتباس ومن الظنّ أنه يعيش في المدينة المقدسة، أن يُتبع مكان سكنه المحاذي للقدس؛ لمدينة رام الله الأقرب، وكذا فعل الاحتلال في نشاطه الأمني الذي استمرّ أكثر من أسبوع أثناء مطاردته لهؤلاء الشبان الثلاثة.
في نشاطه الأمني، الذي ظهر منه قوات مدججة، وطائرات استطلاع، ومناطيد مزودة بكاميرات، ضمّ الاحتلال رام الله والبيرة وبيتونيا إلى بلدات شمال غرب القدس، وهو الخطّ الذي يتوقع فيه الاحتلال مسارات محتملة للشبان الثلاثة، الذين تقول حكايتهم في مطلعها إنّ الاحتلال اقتحم منزل أحمد زهران لاعتقاله، فغلبت إرادةُ أحمد إرادةَ الاحتلال، فقفز الفلسطيني عن ظهر بيته ومصفحات الاحتلال تتربّص به بكلمة أخرى، قرّر أحمد ألا يُعتقل، وبادر بنفسه بفرض وجهة نظر قائلة إنه لا ينبغي أن يكون اعتقالنا سهلا، وإنّ العدوّ عليه أن يعاني وهو يبحث عنّا، في خطّ متصل بالستة الذين قرروا تحطيم أمن سجن "جلبوع" والتخلّص من الأسر. والخطّ هنا ليس تنظيميّا، بل هو خط فلسطيني مشحون بالفرادة، أي فرادة فلسطيني يقرّر أن يقهر إرادة العدوّ، فيقرر الاحتلال، في دناءة خالصة، اعتقال رجال البيت كلهم.
عرف الفلسطينيون ذلك طويلا، أن يعتقل الاحتلال الإخوة والآباء والأمّهات والزوجات لكسر المطارد. اعتاد الفلسطينيون أن يقولوا، في حديثهم عن المطاردين في السنوات التي تعبّقت بالمطاردين: "مَن يطارد مَن؟!"، فإذا كان العدوّ مضطرا أن يجرّ جيشا خلف مطارد، وأن يعتقل قرية بأسرها، لو استطاع، فَمن يطارد مَن حقّا؟! وحينئذ يمكن ملاحظة هذه الفرادة، حينما يصرح آحاد الشبان، بالعزيمة المجبولة بالقلق: لن نكون في متناول يد الغزاة!
يعرفُ بيتُ أحمد طَرقاتِ الاحتلال الليلية جيدا، نعم، الحجارة، والأبواب الحديدية والخشبية، وحمايات النوافذ الحديدية وزجاجها، تعرف دوريات الاحتلال، وبنادق الجنود، و"بساطيرهم" وقبضاتهم جيدا، كما يعرفها أهل البيت الذين يندر وجود رجالهم خارج السجن، كما سبق لهم وصعدوا، في تاريخهم، ببعض رجالهم شهداء. فليس ثمة مجاز في العبارة، وذلك لأنّ لا شيء يمكنه أن يصف حال بعض الرجال الفلسطينيين، وبالضرورة حال أسرهم إزاء الاستهداف المتكرر بالاعتقال، حدّ الإثخان، سوى بالقول إن حجارة بيوتهم نفسها عرفت ما عرفه رجال البيت ونساؤه وأطفالهم. بيد أنّ الإثخان في الأعمار لم ينل من العزائم، كما أنه لا يمكنه أن ينال من صلابة حجارة البيت، وهذا حال بيت زهران في بلدة بدو.
تتحدث الروايات المتقاطعة، الفلسطينية والصهيونية، عن مجموعة مسلّحة تنتمي لحركة حماس، طاردها الاحتلال، وارتقت بعد ذلك، في السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر، في مخبئها الجبلي، في مغارة ببلدة بيت عنان، الأخيرة غربا في قرى شمال غرب القدس، والمتصلة بقرى غرب رام الله من جهتها الشمالية، وهي قرى (غرب رام الله) في الأصل كانت قبل النكبة تتبع مدينة الرملة. وهكذا، تتصل الرملة بالقدس برام الله، وتكتب الدماء من جديد مفردات المطارد، والجبل، والمغارة، وتنتظم حكاية لا تنتهي، على تخوم القدس وفي قلبها.
في ليلة أيلول ذاتها، كان مقاتل فلسطيني، من قرية برقين قرب جنين، يخوض اشتباكا مسلحا مع قوات الاحتلال التي حاولت اعتقاله، يرتقي المقاتل، أسامة صبح، شهيدا وإلى جانبه الفتى يوسف صبح، وتقرّ قوّات الاحتلال بإصابة ضابط وجنديّ في العملية، وتتحدث عن خمسة مواقع دارت فيها الاشتباكات في تلك الليلة، على طول الضفّة الغربية.
في الليلة التي تليها، يُصاب جنديان صهيونيان، في تصدّي مجموعات فلسطينية لعشرين حافلة صهيونية، كانت تقلّ مئات المستوطنين، بحراسة عشرات الجنود، للصلاة في "قبر يوسف"، قرب مخيم بلاطة شرقي نابلس، مما اضطر مستوطني الاحتلال وحراسهم الجنود للهرب من هناك.
تقول قوات الاحتلال إنّ حملتها هذه، التي أزمنت تسميتها بـ"جزّ العشب"، استمرار للحملة ذاتها التي بدأتها عام 2002، إبان اجتياحها للضفة الغربية، في ذروة انتفاضة الأقصى. وكثير من الشبان الذين يسعى الاحتلال إلى قطفهم لم يعيشوا تلك الذروة، فإذا كانت المؤسسة الاستعمارية تراكم على الخبرة الفعلية، فإنّ الشبان يراكمون على الغريزة النضالية، ويمكن حينئذ أن نتوقع أن العشب الفلسطيني الذي لا يُعرف له أوّل لن يُعرف له آخر، ومهما كان العدوّ أسرع في جزّه، فإنّ عشبنا أرسخ وأرسى وأدوم وأبقى، فلا أمل للعدوّ فيه.
حكاية العشب الفلسطيني فريدة، وتعبير العدوّ دقيق، فهو عاجز عن الاقتلاع، فيتحدّث عن الجزّ، فما بقي يعود وينمو، وما قطعه العدو يستحيل سقاء لما بقي، وهكذا.. هي دورة تحاصر العدوّ، والإبقاء عليها ضروري، كي تلتقط في شرط موضوعي مُواتٍ فرصة التسارع الذي يسبق لهاث العدوّ، وإلى حين أن يأخذ الزمان دورته كما ينبغي؛ حتى تأخذ دائرة حصار العدوّ فرصتها للتسارع، تبقى براعم المقاتلين، ومشاريع الشهداء، خروقات منهكة لمنظومة الأمن الصهيوني، وتمزيقا بديعا لشبكة الهندسة الاجتماعية التي أرادت إعادة صياغة الفلسطينيين، وموعظة بليغة لمن يسارع إلى هجاء الناس في هذه المنطقة، عاجزا بدوره عن فهم فلسطين الكاملة بعشبها الأخضر الذي لا يموت.
المصدر: عربي21