في ظنيّ، وبعض الظنّ إثم، أن معظم الفلسطينيين لم يأخذوا خطاب الرئيس محمود عباس على محمل الجد، لأن المؤمن لا يلدغ من الجحر الواحد مرتين، فكيف إذا لدغ منه مرات عدة، ويضاف إلى ذلك بأن من يريد الحرب يستعد لها قبل أن تبدأ، ولا يعلن عن موعد بدئها.
ما سبق لا يقلل من أن خطاب الرئيس رَفَعَ السقف، ويحمل جديدًا، واستهدف الفلسطينيين أولًا وأساسًا، وليس كما دأب في خطاباته السابقة حين خاطب المجتمع الدولي ولم يُقِمْ وزنًا كبيرًا للشعب، وذلك ردة فعل على عدم التجاوب معه رغم اعتداله الكبير، وفي محاولة لاستعادة شعبيته التي تراجعت كثيرًا، كما تشير استطلاعات الرأي، على خلفية تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، وعدم الرضا عن أداء السلطة في هبة القدس وسيفها وهبة شعبنا في الداخل وكل مكان، وكيفية التعامل بعد جريمة نزار بنات، والانتهاكات للحقوق والحريات.
يرجع هذا التحوّل في الخطاب إلى الإحباط من الرئيس الأميركي جو بايدن بعد التفاؤل الكبير بفوزه، الذي عبّر عن نفسه بقول الرئيس لمن التقاهم من المجتمع المدني بأنه متفائل بإقامة الدولة بعد فوز بايدن، وتعزز تفاؤله بعد الاتصال الهاتفي الذي أجراه معه في أيار الماضي، وإرسال أنتوني بلينكن وهادي عمرو أكثر من مرة، وحديث سيد البيت الأبيض عن التمسك بشرعية الرئيس محمود عباس، وضرورة إشراف السلطة على عملية إعادة الإعمار في قطاع غزة، والتغطية على قراره بتأجيل الانتخابات، وعلى عدم تحديد موعد جديد لعقدها.
إحباط، نعم، مع رهان مستمر على استئناف المفاوضات
أكثر ما أغاظ الرئيس أن بايدن لم يهتم بعقد لقاء مباشر معه في واشنطن أسوة بما فعل مع زعماء عرب وغيرهم ومع رئيس الحكومة الإسرائيلية، ولا حتى في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وزاد الطين بلة ما جاء في خطابه في الأمم المتحدة وتصريحات السفير الأميركي الجديد في إسرائيل حول أن إدارة البيت الأبيض متمسكة بحل الدولتين، ولكنه حل بعيد عن التحقيق، ولن تضغط على حكومة نفتالي بينيت حتى لا تسقط، وهذا موقف يغطي على موقف الحكومة الإسرائيلية الرافض لاستئناف مسيرة التسوية، ولأي مفاوضات سياسية.
ما سبق لا يعني أن الرئيس لا يزال يراهن على تجسيد استقلال الدولة الفلسطينية قريبًا أو حتى في عهده، فهو قال للكثيرين ممن التقاهم في السنوات الماضية بأن الدولة الفلسطينية لن تقوم قبل فترة طويلة، وطويلة جدًا، ولكنه كان يأمل باستئناف المفاوضات وعملية التسوية كونها تبرر وجود السلطة وتفتح أفقًا، ولو كاذبًا، بأن هناك إمكانية للتوصل إلى حل، وهذا يعطي شرعية وقوة للسلطة، فلا يكفيها، بل يضرّها جدًا الاقتصار على خطة بناء الثقة (كونها تحدد السقف السياسي الأعلى للسلطة وكونها ليست أكثر في أحسن الأحوال من حكم ذاتي)، وتهدف إلى منع انهيار السلطة وتقويتها في مواجهة سلطة "حماس"، مقابل استمرار التزامها بالاتفاقيات، وخصوصًا التنسيق الأمني.
وما ساهم في إحباط الرئيس عباس من نظيره الأميركي أنه لم ينفذ وعوده الانتخابية، فلم يُعد فتح القنصلية الأميركية بالقدس، ولا مكتب منظمة التحرير بواشنطن، إضافة إلى أن المساعدات الأميركية تستأنف ببطء وصعوبة، وتعترض طريقها القوانين الأميركية التي تصنف المنظمة بـ"الإرهابية"، وتصرّ على عدم صرف رواتب الأسرى وعائلات الشهداء، وتطالب بوقف التحريض الفلسطيني في الإعلام ومناهج التدريس.
لا أخالني أبالغ في القول إن دعوة أميركية لاستئناف المفاوضات، أو قبول أميركي باستئناف عمل اللجنة الرباعية الدولية، والموافقة على مؤتمر دولي رغم أن عقده لا يغيّر كثيرًا؛ يكفي لبث الأمل عند الرئيس والسلطة، والاستمرار في حل الدولتين.
فرغم تشدد الرئيس كما يظهر في تلويحه بسحب الاعتراف بإسرائيل وحديثه عن حق العودة وغيره، بدا في خطابه أقرب إلى المحلل السياسي أو مدير مركز بحثي منه إلى القائد السياسي، حين نثر قائمة من الخيارات (الدولتين، التقسيم، الدولة الواحدة مع الفروق الهائلة بينها)، من دون أن يحدد خياره وقراره والخطة التنفيذية التي سيعتمدها لتنفيذه، بل ترك الأمر إلى ما بعد عام، وهذا يعكس تأجيلًا للقرار وليس أي شيء آخر.
وخلال هذا العام سيقرر الرئيس بعد أن يستنفد الفرص مع إدارة بايدن، ويكون فيه موعد استلام يائير لابيد لرئاسة الحكومة الإسرائيلية، المؤمن مثل بايدن بحل الدولتين، قد اقترب، ولكنه مقيد بائتلاف حكومي لن يقبل باستئناف المفاوضات، حتى لو كانت من دون أفق سياسي، كما أن حكومته مهددة بالسقوط، والمرشح أن تحل محلها حكومة يمينية صرفة، ولكن هذا إن حصل وتولى لابيد رئاسة الحكومة فلن يعطيه ما يكفي لكي ينزل الرئيس عن رأس الشجرة التي صعد إليها في خطابه، كما صرح وزير الحرب الإسرائيلي المؤمن هو الآخر بحل الدولتين غير الممكن حاليًا.
هل سيواصل الرئيس الطريق الذي سار فيه منذ زمن بعيد وترسخت جذوره عنده، وهذا هو المرجح والطبيعي، لأن التخلي عنه، بعد عشرات السنين، وهو في هذا العمر مستبعد، فلا وقت لديه، ولا نية حقيقية لإجراء التغيير اللازم، فهناك بنية كاملة بُنيت خلال هذه الفترة تحول دون التغيير، كما أن مجمل مسيرته تدل على أنه لا يزال يعتبر أن أوسلو أهم إنجاز تاريخي حققه الشعب الفلسطيني، وأنه أُفْشِل ولم يَفْشَل؟ وأن لا بديل عنه.
شراء الوقت
إنّ احتمال شراء الوقت قائم بشدة، وهو الاحتمال الأقوى، لأن الرئيس عباس منذ قمة سرت العربية في العام 2010، طرح الخيارات السبعة، وأخذ يهدد بها ولا ينفذها، وإذا نفذها فيكون بشكل مؤقت، ويوظفها كتكتيك، فهو هدد تارة بحل السلطة وتسليم مفاتيحها لأنها سلطة بلا سلطة، وبالوحدة الوطنية تارة ثانية، وبالدولة الواحدة تارة ثالثة، لدرجة أن المجلسين المركزي والوطني اتخذا قرارات بإعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال وبالاتفاقيات في العامين 2015 و2018، ولم تنفذ، إضافة إلى قرارات عدة بوقف التنسيق الأمني والتحلل من الاتفاقيات والرجوع عنها، ما يدل على أن الرئيس لا يؤمن بوجود خيار آخر رغم شعوره المتزايد بالخيبة وبالطريق المسدود، كما بدا واضحًا في خطابه، غير الذي سار به، وإذا وجد بعد عام أنه مغلق تمامًا ولا يوجد أفق ولا حمل، ولو كاذب، فسيواصل سياسة البقاء من أجل البقاء أو سيرحل، أو يمكن أن يفكر جديًا بالرحيل من دون الإقدام عليه.
خروج آمن
يقودنا ما سبق إلى خيار الخروج الآمن، الذي يمكن أن يفكر فيه الرئيس إن لم يكن قد بدأ بالتفكير فيه فعلًا، ويكون إما من خلال الإعداد للخليفة والخلفاء، عبر ملء مقعد د. صائب عريقات الشاغر منذ أكثر من عام، ومقعد د. حنان عشراوي التي استقالت احتجاجًا على الوضع الفلسطيني، ومقعد الجبهة الشعبية الذي لا يزال شاغرًا، مع بقاء حركتي حماس والجهاد خارج المنظمة. وهذا الأمر وغياب وتغييب المنظمة يعكس استمرار وضعها البائس، الذي لا يتناسب أبدًا مع كونها المرجعية العليا والممثل الشرعي الوحيد.
وإما أن يقرر ترك الأمانة وتحميل حركة فتح، ومؤسسات المنظمة تحديدًا، مسؤولية تقرير الآلية المناسبة لانتقال القيادة على أساس أنها المرجعية العليا.
إن الانتقال الآمن للسلطة يتحقق من خلال حوار وطني شامل، والاتفاق على رؤية شاملة، وإستراتيجية موحدة، وقيادة واحدة، على أساس شراكة كاملة، وخارطة طريق تتضمن الاتفاق على برنامج الحد الأدنى، وإعادة بناء مؤسسات المنظمة، وتغيير السلطة، وإنهاء الانقسام، وتوحيد المؤسسات، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني من دون ربطها بموافقة الاحتلال. فالمؤسسات القائمة حاليًا لا يمكن أن تؤمّن انتقالًا سلسًا كونها ضعيفة ومهمشة ومختلفًا عليها، والأهم أنها فاقدة للشرعية بمختلف مصادرها في ظل تنافس شديد على الخلافة.
ولكن الانتقال إلى السلطة بعد الرئيس لا يبدو، حتى الآن، أنه سيتم بأفضل الطرق، وإنما من خلال الصراع على الخلافة، وتنافس الخلفاء، وسعيهم لخلق الحقائق على الأرض، بما فيها انتشار السلاح والمسلحين خارج سلاح السلطة، الذي يمكن أن يؤدي إذا تعذّر الاتفاق بين مراكز القوى داخل السلطة و"فتح" إلى الاقتتال الداخلي الذي يوسّع الباب للفوضى التي بدأنا نشهد مؤشرات على انتشارها المتزايد.
الخلاصة مما سبق أن ما يسمى حل الدولتين وهم سارت وراءه القيادة المتنفذة عشرات السنين، رغم أنه لم يكن مطروحًا فعليًا، بدليل عدم موافقة أي حكومة إسرائيلية عليه، حتى التي كانت تسمى حكومة يسار أو سلام.
صحيح أنه كان ولا يزال في إسرائيل مؤيدون لهذا الحل، غير أنهم لم يكونوا أصحاب القرار، وهدف معظمهم من طرحه الحفاظ على نقاء الدولة اليهودية، وعدم تحوّلها إلى دولة ثنائية القومية أو لكل مواطنيها، أو دولة تمييز عنصري. والدولة الفلسطينية التي يوافق عليها هؤلاء لن تقوم على حدود 1967، وإنما على جزء منها، ومن دون معظم القدس وغور الأردن والكتل الاستيطانية والمناطق الأمنية والإستراتيجية، وعلى حساب حق العودة، ويجب أن تكون منزوعة السلاح ... إلخ.
تغيير المقاربة
المطلوب حتى نأخذ خطاب الرئيس جديًا تغيير المقاربة الفلسطينية المعتمدة على الأقل منذ أوسلو، ليس من أجل القفز نحو المجهول، أو تدمير كل شيء، أو استبدال حل الدولتين بحل الدولة الواحدة، وكأن الذي لم يحقق دولة على 22%، سيحقق دولة على 44% وفق قرار التقسيم، أو دولة واحدة، وإنما عن طريق تغيير المقاربة على أساس التمسك، أولًا وأساسًا، بوحدة القضية والأرض والشعب، وبالرواية والحقوق القانونية والتاريخية، ورؤية المتغيرات والحقائق وموازين القوى، والتعامل معها لتغييرها من دون الخضوع لها ولا القفز عنها.
ويقتضي تغيير المقاربة وضع هدف نهائي يجري الكفاح لتحقيقه مهما طال الزمن، وأهداف مباشرة ومتوسطة تأخذ واقع الشعب الفلسطيني وشروط وخصائص كل تجمع، فهناك تكامل بين النضال لإنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينية، والنضال من أجل إحياء قضية اللاجئين على طريق إنجاز حق العودة والتعويض، والمساواة لشعبنا في الداخل، بحيث أن التقدم لتحقيق أي هدف للكل الفلسطيني يساعد على تحقيق الأهداف الأخرى، ولكن على أساس أن تحقيق مثل هذه الأهداف لا يتم عن طريق المفاوضات والتنازلات وإثبات الجدارة وبناء المؤسسات، وإنما عن طريق الجمع بين مختلف أشكال العمل السياسي والكفاحي، بما فيها المفاوضات في الوقت المناسب، ومن أجل تغيير جوهري بموازين القوى بما يسمح بتحقيقها.