وكأنها مفارقة تاريخية مقصودة، أن تُوقّع اتفاقية أوسلو في 13 أيلول/ سبتمبر 1993، وأن يفكّك الاحتلال مستوطناته في غزّة في 12 أيلول/ سبتمبر 2005.
في الواقع كانت اتفاقية أوسلو سابقة على انسحاب الاحتلال من غزّة، لكن الرقم 12 يسبق الرقم 13، لتزداد المفارقة التاريخية دلالة وقصدية، فالكل ينتسب للحظة تاريخية سابقة، هي الأصل، وهي الكفاح الفلسطيني، وهو ما يعبِّر عنه الرقم 12 بأسبقيته الرياضية، والرقم 13 بتخلفه الرياضي عن سابقه، في استعانة تاريخية بالرياضيات للحديث عن الأصل والطارئ، المقدمات الصحيحة والنتائج الخاطئة.
تفضي المقدمات الصحيحة إلى نتائج خاطئة حينما تُقطع المقدمات الصحيحة، وتُمنع من استكمال مسارها. ثمة من يمسك برأس المقدمة ويصادره قبل أن ينمو جسدها، ثم يلقيه في ملعب الرهانات التي تقامر بالدماء الغزيرة، والآلام الشديدة، التي أخذ يتشكل منها رأس تلك المقدمات، ببشاراته وآماله، ثم علينا حينئذ أن نتخيل هذا الرأس قد بات مأساة مجسدة، بعدما كان مشروع أمل مبشر، مأساة تتقاذفها الأقدام في ذلك الملعب، مأساة هي التجسيد لآلاف الوجوه التي تفيض بآلاف التعبيرات المختلطة، بين إرادة القتال وأوجاع الطريق.
تفضي المقدمات الصحيحة إلى نتائج خاطئة حينما تُقطع المقدمات الصحيحة، وتُمنع من استكمال مسارها. ثمة من يمسك برأس المقدمة ويصادره قبل أن ينمو جسدها، ثم يلقيه في ملعب الرهانات التي تقامر بالدماء الغزيرة، والآلام الشديدة
كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى كفّا بزغت في العام 1987 وقبضت على الفلسطينيين كلّهم، بدفء بالغ، فما من فلسطيني إلا وله دور في تلك الانتفاضة، حتى لو لم يكن يعيش في مجالها الحيوي في الأراضي المحتلة عام 1967. باتت تلك الانتفاضة، بكلّ ما يحفّها من قلق، وتوتر، واحتمالات الاعتقال والإصابة والشهادة، خبز الفلسطينيين، وهواءهم، وعنوان وجودهم، والمعنى الذي يتشكلون منه، ويجدون به سببا لاستمرارهم بوصفهم فلسطينيين. فمن لم يكن في جغرافيا الانتفاضة كان في الانتفاضة، يتنفس أخبارها، ويدعمها، وهكذا أخذ الفلسطينيون يشقّون طريقا جديدة، لاحبة، رحبة، بعد انكسار بيروت 1982.
هذه واحدة من أكبر صور الأصل، بيد أنّ هذه المقدمة الكبيرة قُطِع رأسها بتوقيع اتفاقية أوسلو، التي كانت كافية للتأكيد على أنه يمكن للفلسطينيين بكفاح صبور، دؤوب، يناسب الظرف التاريخي الذي حُشِروا فيه، ويضمن لهم استمرارية معقولة، أن يدفعوا العدوّ للخلف، ويضمنوا اتقاد قضيتهم، ووضوح حقائقها في العالم، بلا غبش، بيد أن الاستعجال أصرّ على قطع رأس الانتفاضة على مذبح الطموحات الشخصية والفهلوة السياسية والفوضى الحزبية، لتجد السلطة، التي قَطَعَت تماما مع هذا الطريق، وصادرت من الفلسطينيين ممكنات المقاومة الشعبية الفاعلة حقّا، نفسها مضطرة للعودة إلى الأصل في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2000، في ما عرف بانتفاضة الأقصى، بعد فشل مفاوضات عرفات/ باراك برعاية كلينتون، وهو الأمر الذي تمدّد وصولا إلى تفكيك الاحتلال لمستوطناته من قطاع غزّة وانسحابه منها في 2005.
بلغت الانتفاضة الأولى بالفلسطينيين، كلّهم، ذروة الحرية، والإحساس العالي بالانعتاق، والقدرة الكاسحة على شقّ الطريق، دون أن يطرحوا مبادرات، ولا أن يقدّموا تنازلات، وإنما في نمط كفاحي عبقري، توفرت شروطه الكاملة، فأحسن الفلسطينيون الإمساك به. إلا أنّ الاستعجال الذي سبق بيانه، لم يقطع مع تلك الانتفاضة بوصفها نمطا فريدا من الكفاح مصادرا أدواتها فحسب، ولكنه قطع مع فكرة الحرية التي انبثقت عنها الانتفاضة، فجاء بسلطة ذات طابع شمولي، أو نسخة مصغّرة من أيّ نظام رسميّ عربيّ، تتناقض في بنيتها وسياساتها ومضمونها الجوهري مع فكرة والحرية.
بنية المقاومة في غزّة، والتي تعززت بعد انسحاب الاحتلال من القطاع عام 2005، فهي مؤسسة على لحظة انتفاضة الأقصى، التي هي بدورها عملية ربط تاريخي بالانتفاضة الأولى، على اختلاف السمات والشروط الموضوعية للانتفاضتين، بمعنى أن ما تبقى للفلسطينيين اليوم هو مؤسس على الأصل، لا على الطارئ
فلا يمكن للوظيفة الشارطة أن تؤدّي مهمتها على الوجه المطلوب، إلا إذا كان الجوهر القيمي مؤسسا لذلك وضامنا له، فإذا كانت الوظيفة مناقضة لفكرة الانتفاضة، فإن الجوهر لا بدّ وأن يكون مناقضا لفكرة الحرية التي تجلّى الفلسطينيون بها، لمّا استردّوها في الانتفاضة الثانية، والتي وللمفارقة التاريخية لم تنته (أي الانتفاضة الثانية) إلا بإعادة تجديد السلطة التي صادرت من الفلسطينيين حريتهم، قبلا، ثم بعدا، ليدخلوا في مرحلة انسداد تاريخي مطبق، وغير مسبوق.
وأمّا بنية المقاومة في غزّة، والتي تعززت بعد انسحاب الاحتلال من القطاع عام 2005، فهي مؤسسة على لحظة انتفاضة الأقصى، التي هي بدورها عملية ربط تاريخي بالانتفاضة الأولى، على اختلاف السمات والشروط الموضوعية للانتفاضتين، بمعنى أن ما تبقى للفلسطينيين اليوم هو مؤسس على الأصل، لا على الطارئ، فمن يأخذ اليوم هذا الدرس الرياضيّ من التاريخ؟!