في باكورة أعمال المؤتمر السنوي العاشر لمركز مسارات، عُقِدت طاولة مستديرة متميزة شارك فيها شباب وشابات من مختلف التجمعات الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها؛ للحوار حول الهبة الانتفاضية التي اندلعت ابتداء من القدس، وشارك فيها الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده. وتنوعت الآراء، وتباينت، وتكاملت، ورسمت صورة حية لما يشهده الشباب الفلسطيني من حراكات وإرهاصات وإبداعات، ومن عدم تسييس وإحباط من الواقع القائم والقيادة المهيمنة.
أورد في ما يلي أفكارًا، وربما بعض الملاحظات، على خلفية مع ما دار في الطاولة المستديرة من آراء غنية وعميقة، تثبت مجددًا أن الشعب الفلسطيني حيٌ وقادرٌ على النهوض مجددًا من الكبوة التي تعيشها القضية الفلسطينية منذ سنوات، ومفتوحة على سيناريوهات متعددة متناقضة، منها ما هو جيد وسيئ، وما هو أسوأ وأفضل.
الفصائل والبنى التقليدية والحراكات الأخيرة، وخصوصًا في هبة القدس الأخيرة
لا نستطيع أن نتجاهل وجود الأحزاب في ملحمة القدس وتجلياتها، فقد شاركت في الشيخ جراح، وبيتا، وما بينهما وما قبلهما وما بعدهما، كما قادت معركة سيف القدس، ولكنها - أي القيادات والفصائل - إما تخلفت من حيث تأخر التحاقها، وعدم القدرة على المبادرة والقيادة، أو تضخيم ما تحقق، أو تضخيم شكل نضالي وتقزيم الأشكال الأخرى، مع أن ما جرى بيّن أهمية وفعالية الجمع بين مختلف أشكال النضال، أو لجهة محاولة حصد النتائج من خلال توظيف معركة وطنية كبرى لصالح فوائد فئوية صغرى.
فعلى الرغم من أن معركة سيف القدس قدمت أداء عسكريًا مبهرًا وجسّدت انتصارًا للوطنية الفلسطينية ووحدة الشعب والأرض والقضية، جرت محاولة متسرعة لتجييرها لصالح قيادة فصيل بعينه للشعب والمؤسسة، بدلًا من السعي لتوظيفها لتحقيق المشاركة وتغيير النظام السياسي على هذا الأساس.
فهناك طرف قدم نفسه كبديل، وطرح شروطًا وإملاءات سرعان ما وجد أنها غير قابلة للتحقيق، ولم يعرف بعد ذلك ماذا يفعل بعد أن وجد نفسه ليس أمام نهاية الاحتلال، ولا قرب زوال إسرائيل، وإنما يدور في مفاوضات من أجل عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب الأخيرة.
أما الفريق الآخر فانقض على الهبة ومنع استثمارها، من خلال انقضاضه على الشباب، وممارسة قبضة حديدية، خصوصًا بعد جريمة اغتيال نزار بنات، بدلًا من البناء على الشيء العظيم الذي تحقق وأعاد القضية بوصفها قضية تحرر وطني إلى الصدارة، وما يتطلبه من الشروع الفوري في تغيير المسار.
فمثلًا، أهم ما حصل في الهبة إضافة إلى إطلاق الصواريخ على القدس وتل أبيب، تجلي وحدة الشعب في أشكال عدة، وخصوصًا في الإضراب التاريخي الذي شمل كل فلسطين، والذي التحقت به الفصائل والبنى التقليدية كلها.
العفوية والتنظيم والقيادة
الهوة السابقة التي تعمقت خلال الهبة وما بعدها ما بين القيادة والبنى التقليدية والفصائل من جهة، والشعب والحركات الشبابية من جهة أخرى؛ أدت إلى ردة فعل سلبية جدًا وواسعة تعارض القيادة القائمة، وأي قيادة، وإن لم تشمل الجميع، وذهبت نحو تقديس العفوية، ورفض أي قيادة للهبات والموجات الانتفاضية، والدعوة لكل فرد أن يكون قائدًا من دون الحاجة إلى قيادة. هناك مكان بين هذا وذاك يجمع بين المشاركة والعمل الجماعي وبلورة قيادات من نوع جديد.
ورغم أن لهذه الآراء ما يبررها، ولا بد من الحرص على مشاركة حقيقية كاملة وليس تحكم فرد أو أفراد أو نخبة أو فصيل بالحراك الشعبي، إلا أنه لا يمكن العفوية أن تقود وتتواصل وتراكم الانتصارات الصغيرة على طريق الانتصار الكبير، فالنضال ليس من أجل النضال، والمقاومة ليست صنمًا نعبده وليست غاية بحد ذاتها، وإنما وسيلة لتحقيق غاية يجب أن تكون معروفة وواضحة وضوح الشمس، وأي حركة شعبية، وخصوصًا أي ثورة، بحاجة إلى رؤية ووعي وتنظيم بوصفه أرقى مراحل الوعي، وهذا يعني الحاجة إلى قيادة، ولا يعني ذلك إعادة إنتاج القيادات والتجارب السابقة بكل سياساتها، وطرق عملها، وإخفاقاتها، وعيوبها، خصوصًا أنها كانت تنوب عن الشعب وتتحكم به وتحكمه إلى الأبد، من دون تجديد ولا تغيير مستمر، ولا ضخ دماء وأفكار جديدة، وبلا تفويض منه، وبلا آليات مراقبة ومحاسبة.
نعم، نحن بحاجة إلى أفكار ورؤى وسياساسات وأساليب عمل جديدة، وإلى قيادات من نوع جديد تتجاوز الطرق السابقة، وتنسجم مع متطلبات العصر الجديد والآفاق الواسعة التي يتيحها.
وسائل التواصل الاجتماعي
ما يميز الهبة الجديدة أنها استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي، حتى المصممة لأهداف ومجالات أخرى، مثل التويتر، و"التيك توك"، والإنستغرام؛ لتقديم السردية الفلسطينية بطريقة جديدة قوية وواثقة، ومن دون استجداء ورهانات خاطئة، وكان لها أثر واسع وغير مسبوق في العالم كله، وساعد على تحقيق هذا الإنجاز عدم التركيز على خطاب الضحية، ولا الاقتصار على خطاب العدالة والبطولة، ولا على القفز عن الواقع واعتماد سياسة الأرض المحروقة، والقفز عن المراحل بصورة مغامرة لا تدرك أن طريق تغيير الواقع يبدأ يالاعتراف به من أجل تغييره، لا الخضوع والاستسلام له. فالمطلوب عكس الحقيقة كما هي، وهي كفيلة برفع القضية الفلسطينية عاليًا من دون تضخيم ولا تقزيم.
وعلى أهمية وسائل التواصل الاجتماعي إلا أنها خاضعة لنظام محكم لن يسمح باستخدامها في غير مصالح المتحكمين فيها، وهي ليست بديلًا ولا بأهمية النضال على أرض الصراع ولا قيمة لها إن لم تستند إلى نضال حقيقي لا افتراضي.
لقد طرحت الطاولة المستديرة من الأسئلة أكثر مما أجابت عنها، وأكدت الحاجة إلى حوار مفتوح وعميق، والحركة وحدها من دون وعي ورؤية وتنظيم ليست بركة دائمًا، وبينت أن ما شهدناه ما قبل وأثناء وبعد أيار ليس ذهبًا فقط، وإنما ترافقت معه ظواهر معاكسة في كل أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك في الداخل، بدليل أننا الآن بدل من أن نحصل على مكاسب دخلنا في صراعات داخلية أكبر، وإذا لم نر كل ما يجري بعجره وبجره لا يمكن أن نعرف جذور وأسباب ما وصلنا إليه، وكيفية تجاوزه، ولا معرفة أين نقف، وماذا نريد، كيف نحقق ما نريد؟