أي عنوان هذا الذي ينفي نفسه، ينفي الحاجة له، ربما يبدو للوهلة الأولى كذلك، لكننا بحاجة لتخيّل التاريخ يحكي لنا كيف صنع النحات الفرنسي "كلوي" تمثال"فرانسوا الأول" بعد وفاته ليحضر التمثال كل اجتماعات القصر وتشريفاته، حتى أن الناس كانت تخر أمامه بكل خشوع، وكأن فرانسوا نفسه الذي أمامهم. استمرت المأدبات والحفلات في حضور التمثال أربعين يوماً، لكن في هذا الطقس الغريب لم يكن أحداً يملك الرغبة في قول مايرى في الحقيقة، التمثال لايقول شيئاً وفرنسوا مات.
حين حضرت المناظرة الانتخابية الأخيرة في جامعة بيرزيت، كان صوت مُنَاظِر الشّبيبة الغليظ يبدو متكلفاً و كأنه يستحضر أمجاد جبال عمان وزقاق بيروت !! وليس مهما ماذا سيقول، فهو يفعل ذلك حتى لو أراد اقناع الطلاب بترك السلاح. فيما كان مناظر الكتلة الإسلامية والتكبيرات التي تقاطعه بمناسبة وبدونها، يصرخ بكل ما اختزن من أصوات خطباء الجمعة في صوته، لكن أحدا لم يكن يقول شيئاً سياسياً، فما الذي يمكن أن يعبر عنه الصندوق إذا كان الأفق الذي انغلق في الخارج السياسي لم تتم الإجابة عليه؟! وأي رغبة سياسية يتم عكسها في ظل انتخابات داخل ما يشبه المنطقة الخضراء الأمنية؟! وقتها كان التمثال حاضراً يخفي الجثة، ولأغراض لا علاقة لها بالوطنية لم يجرؤ أحد على القول: "ايها الطلاب الأعزاء: هذا تمثال الحركة الطلابية،لقد متنا".
ثبات تأرجح الصندوق
مرّت الحركة الطلابية الفلسطينية في تحوّلات عميقة في بنيتها، وفي الدور الذي تمارسه، فبعد أن كانت تلعب دوراً طليعياً في قيادة القضية نحو آفاق جديدة، أصبحت محكومة بالأفق الذي حددته الفصائل، وبذلك فهي تعاني من ذات الانغلاق في الأفق، بل أكثر منه، لأنها ملحق به وليست حتى جزءاً مؤثراً داخله.
كانت نتائج الانتخابات بعد التغير في طبيعة الحركة الطلابية تتأثر بالبيئة الخارجية بشكل مباشر، فالخارج كان يمكن أن يقول عن داخل الجامعة وليس العكس، وحدث ذلك حين تحول الطلاب من حركة طلابية إلى أطر طلابية بلغة عماد غياضة، أي أن حركة الطلاب تشتق من خارجها وليس هي المنتجة للحركة من ذاتها، مما يجعل كل القراءات التي تعوّل كثيراً على انتخابات الطلبة بوصفها منشئة لمزاج سياسي لاحق، هي تعويلات تقول عن الظاهرة ولاتسمع منها.
في العام 1979 وبعد انتصار الثورة الايرانية فازت الكتلة الاسلامية ولأول مرة في انتخابات مجلس طلبة جامعة النجاح الوطنية بعشرة مقاعد بنسبة 43% فيما قبلها بعام حصلت على 3%. فحضرت الثورة الايرانية بالإضافة لعوامل أخرى إلى داخل الانتخابات بشكل ملفت، وسيطرت الكتلة الإسلاميّة في نفس الفترة على جامعات الخليل و الاسلامية و القدس منذ تأسيسها.
[caption id="attachment_18578" align="aligncenter" width="396"] الدعاية الانتخابية للحركات الطلابية في جامعة بيرزيت - انتخابات 2013[/caption]واكتسحت كتلة الشبيبة انتخابات مجالس الطلبة بعد رحيل ابو عمار، فيما بعدها بفترة قصيرة اكتسحت حركة حماس انتخابات المجالس البلدية والتشريعي، فلم يقل الصندوق يومها شيئاً، سوى أن الطلبة كانوا متعاطفين مع الشبيبة لرحيل ابوعمار، وغني عن القول أن هذا التعاطف لا علاقة له بالسياسة، ولاينتمي لها، فسرعان ما صب المجتمع أصواته لحركة حماس في الانتخابات خارج الجامعة، فلا المجتمع الطلابي استطاع قول شيء للمجتمع الأكبر ولا هو عكس رغبته السياسية آنذاك.
لقد شكل صندوق طلاب السنة الأولى معضلة الكتل الانتخابية. فترة التسعينيات كان الصندوق يحسم لصالح حركة حماس فيما يحافظ صندوق طلاب السنوات الاخرى على ثباته لصالح كتلة الشبيبة في الغالب، انقلب الأمر في آخر عشر سنوات، فأصبح صندوق السنة الأولى يحسم لصالح الشبيبة، هل يمكن الحديث عن طالب سنة أولى بوصفه القادم من المجتمع وحامل قناعاته قبل أن يتعرف عن قرب إلى الكتل الطلابية، مما يعني أن صندوق سنة أولى يشير لحضور المجتمع أكثر من حضور الكتل الطلابية؟!.
في الانتخابات الأخيرة فازت الشبيبة الطلابية الذراع الطلابي لحركة فتح في معظم انتخابات المجالس الطلابية في الضفة الغربية، لقد تنافست سبع أجنحة طلابية تابعة للفصائل الفلسطينية في انتخابات جامعة بيرزيت التي يبلغ عدد طلبتها قرابة ثمانية الاف، تجاوزت أربعة من هذه الأجنحة فقط نسبة الحسم، حيث حصلت فتح على 23 مقعداً في المجلس الطلابي، مقابل 20 مقعداً لحماس و7مقاعد للجبهة الشعبية ومقعد واحد لتحالف جبهة النضال، والمبادرة الوطنية - فلسطين للجميع - بينما فشلت ثلاث لوائح في تجاوز نسبة الحسم وهي التابعة للجبهة الديموقراطية حزب الشعب وحزب فدا.
نلاحظ أن الكتلة الإسلامية المحسوبة على حركة حماس تقدمت بمقعد واحد مقارنة بالعام الماضي الذي حصلت فيه على 19 مقعدا لتحصل على 20 مقعدا من أصل 51 مقعدا، بينما وتراجعت كتلة حركة فتح من 26 إلى 23 مقعدا.
أما في جامعة النجاح فتنافست ثماني كتل طلابية، تجاوزت أربع منها نسبة الحسم اللازمة للتمثيل في المجلس الطلابي، حيث حصلت فتح على 43 مقعداً مقابل 33 مقعداً لحماس و3 مقاعد للجبهة الشعبية ومقعدين للجبهة الديموقراطية، بينما فشلت أربع لوائح في تجاوز نسبة الحسم، وهي التابعة لحزب الشعب وحزب فدا وجبهة النضال والمبادرة الوطنية، بعدما فشلت اللائحتان الأخيرتان في التوحد ضمن كتلة فلسطين للجميع، كما حصل في جامعتي بيرزيت والخليل.
اليسار الفلسطيني، خاض الانتخابات بخمس قوائم في بيرزيت وستة في النجاح، هذا فضلا عن تجمد شعبية اليسار في الشارع فإنه لم يكن قادرا على تشكيل كتلة جامعة لكسر ثنائية فتح وحماس.
فيما غابت الجماعة الإسلامية الذراع الطلابي للجهاد الإسلامي عن الانتخابات، باستثناء انتخابات الجامعة الإمريكية التي خاضتها بالتحالف مع الكتلة الإسلامية، وأغلب الظن أن ذلك عائد إلى كون الجماعة اللإسلامية لم تقم تمييزا صلباً بين ذراعها العسكري والطلابي، فشهدت اجتثاثا من الاحتلال عن طريق الاعتقالات والاغتيالات لقيادات وكودار الجماعة الإسلاميّة.
تجمد الصراع الانتخابي، فليس هناك مفاجآت يقولها الصندوق، مازالت الكتلتين الأبرز هما حماس وفتح فبينما حصلتا على 85% من مجموع الأصوات في انتخابات المجلس التشريعي فلقد حصلتا على 90% من مجموع أصوات الطلبة، وكأن الواقع الطلابي لم يتأثر باخفاقات السلطة التي تشهدها الحركتان، وكأن حرب غزّة التي خاضتها حركة حماس، لم تقدم ولا تأخر شيئاً.
فيما غزّة التي توقفت فيها الانتخابات منذ أحدث 2007،أ جرت انتخابات في الجامعة الإسلامية وحدها وهي المحسوبة على حركة حماس، فشاركت فيها الكتلة الإسلامية أمام قائمتين في ظل انسحاب أبرز الفصائل فحصلت على 80% من الأصوات وهو مايشبه حصول أحدهم على ترتيب الثاني في صف هو الوحيد فيه.
القوارب التي تسبق السفن
سبق "الاتحاد العام لطلبة فلسطين" نشوء منظمة التحرير الفلسطينية بعدة سنوات، لقد انجب الاتحاد العام جسما أكبر منه (سيلتهمه لاحقا)، وكذلك الأمر بالنسبة للكتلة الإسلامية فلقد سبقت نشأة حماس بعشر سنوات تقريبا، وعودا إلى لحظة الانطلاق فإن نشأة الحركة الطلابية تعود إلى منتصف العشرينيات تحديدا العام 1925 بوصفها الفترة التي شهدت تأسيس "جمعيات الخطابة الطلابية" وهي أول جسم طلابي فلسطيني، لعبت لاحقا دورا بارز في ثورة 1936 وهو العام الذي شهد عقد أول مؤتمر طلابي فلسطيني في يافا، وكان الحس الوطني الطلابي واعياً جدا لتعريف الصراع، فرفع شعاره " محاربة الانجليز لأنهم رأس الافعى" بلغة البيان التأسيسي.
وكانت الحركة الطلابية الفلسطينة أول تنظيم شعبي فلسطيني تشكل بعد النكبة، فتعافى من الصدمة ليعاود تكوين نفسه ليشهد لاحقا فترات انتعاش ذهبية في قيادة الشارع الفلسطيني منذ النكبة وحتى 1956، حيث شهد عام 1959 تأسيس "الاتحاد العام لطلبة فلسطين" بدعوة من رابطة الطلبة الفلسطينيين في القاهرة، رافعا شعار " خلق الانسان الثوري القادر على العمل والتحرير والتوعية" وكان أول مؤسسة فلسطينية تدعو إلى التجنيد الإجباري.ولذلك فلقد ركز الاتحاد على التدريب العسكري لاعضائه وشارك بتشكيل فرق المغاوير بعد هزيمة 1967.
المجاديف التي تكسرت
عقب أحداث صيف 1996 رفعت الشبيبة شعار "الشبيبة على يمين السلطة إذا أصابت وعلى يسارها إذا أخطأت"شكلت الشبيبة ذراعا طلابيا للسلطة، وبذلك لم يعد بالامكان لحركتها التخفف من اعباء السلطة وحساباتها، والسلطة بحكم تعريفها بنية محافظة، لا تكف عن انتاج خطاب يحافظ على بقاء الأوضاع بقصد السيطرة عليها، وهذا ما حدث مع الكتلة الإسلامية لاحقا حين تحوّلت لماكنة تبريرية للسلطة في غزّة، فيما كان اليسار يحاول التقدم، كانت قيادته لا تزيح ناظريها عن مخصصات منظمة التحرير التي لطالما استخدمها الرئيس ابو مازن كاداة تأديب لفصائل اليسار، انضمت الكتل سريعا إلى الانتفاضة الثانية، وكانت مصدر خروج العمل العسكري بشكل رئيسي، إلا انه كان مصدر أشبه بالمخزن الذي يرفد العمل للاستمرار دون شق طرق جديدة تتجاوز توجهات قيادات الفصيل السياسي، فكان الفصيل يفيض على الإطار الطلابي بعدما كان الإطار يسبقه ويستكشف له مناطق جديدة لامكانيات الفعل.
كانت هذه الضربة الأولى التي وجهت لمجادف الحركة الطلابية وهي العلاقة الاحتوائية بين السلطة والحركة منتجة إطاراً تابعاً، فيما كانت الضربة الثانية هي الملاحقة الأمنية، ففور إعلان الكتلة الإسلامية مشاركتها في الانتخابات كان هذا يعني مبدئيا أن القيادي في الكتلة الإسلامية سيغير مكان مبيته كل ليلة، دون أن يمنع ذلك من اصطياد الأجهزة الأمنية له، فيما منعت حكومة غزّة اجراء الانتخابات من أساسها.
وكانت الضربة الثالثة من الاحتلال فلقد ساهمت الاغتيالات والاعتقالات الواسعة في صفوف الحركة الطلابية في تكسير نشوء تواصل يراكم على إنجازات الحركة نفسها، فكأنما كل جيل يبني تجربته من جديد.
وحلت الضربة الرابعة من التمويل الأجنبي الذي عمل على صناعة فئة الشباب وسلخها عن امتدادها الطبيعي في المجتمع، من خلال برامج ومؤسسات شبابية دأبت على نزع السياسي عن الممارسة الاجتماعية، وبذلك أصبح للشباب كفئة صفات خاصة واحتياجات محددة، ولغة تحاول أن تستقل بنفسها، تحاول أن تتقن الكلام تقنيا، وتحسبه اداريا في اختفاء واضح لروح العمل التطوعي والذي هو عماد الحركات الوطنية، وفي اعادة تعريف للعمل السياسي وفصله عن مختلف النشاطات.
*تم نشر أجزاء من هذا المقال في جريدة السفير اللبنانية.