غزة - قُدس الإخبارية: 49 عاماً على اغتيال المناضل والمفكر الروائي الفلسطيني غسان كنفاني، وما يزال ميراثه الفكري يتقد ويتوهج، فالمتفجرات التي وضعت أسفل سيارته ذات صباح بيروتي، غيبت جسده ولكنها لم تكن كافية لتغيبه، ولا أدل على ذلك حضوره المهيمن في عالم الفكر والأدب ورسوخه في الوجدان الشعبي والثقافي الفلسطيني والعربي، لذا كان الاغتيال لستر ما كشف من عورات الاحتلال الإسرائيلي والتي عراها قلمه المعاند، فكان اغتياله قصيدة جديدة كشفت جرم الاحتلال.
أدب المقاومة الذي أرسى كنفاني دعائمه لم يقتصر على الرواية والقصص القصيرة، بل امتد إلى نقد "التاريخ الصهيوني" من خلال مؤلفاته الكثيرة، حيث نسف ادعاءاتهم وافتراءاتهم وأعاد المحتلين إلى كيبوتساتهم في مجاهل أوروبا وقض مضجع تيودور هرتزل من خلال دحض مزاعم الصهيونية برمتها بقلمه وفكره ووعيه.
ولأن الاغتيال أحد ركائز العقيدة الأمنية للاحتلال، يواصل سياسة الاغتيال بطرق مختلفة ومتنوعة بدءا بالتصفية الجسدية مروراً باغتيال السمعة وتزييف الحقائق وتكميم الأفواه، وليس انتهاءً بحجب النشر أو تجميد الحساب.
ولد كنفاني في عكا، شمال فلسطين، في التاسع من نيسان عام 1936م، وعاش في يافا حتى أيار 1948 حين أجبر على اللجوء مع عائلته إلى لبنان ثم إلى سوريا، عاش وعمل في دمشق ثم في الكويت، وبعد ذلك في بيروت منذ 1960 وفي تموز 1972، استشهد في بيروت مع ابنة أخته لميس في انفجار سيارة مفخخة على أيدي عملاء إسرائيليين.
التطور والفكر
ومع طفرة التطور الإلكتروني في التسعينات وشيوع "الأدب الإلكتروني"، من خلال العديد من الأشكال العصرية كالمواقع الإلكترونية والمدونات ووسائل التواصل الاجتماعي، ارتدى أدب المقاومة هذا الثوب العصري لمواكبة الحداثة الرقمية.
إن النمط الرقمي تخطى العديد من الحواجز التقليدية، واعتمد على الحوار المباشر مع المتلقي، كما اتسم بأنه عابر للحدود، ومنفتح على الثقافات المتباينة، وجمع بين طياته العديد من المؤثرات كالكلمة والصورة بنوعيها الثابتة والمتحركة والموسيقى والألوان.
وهنا كان على الاحتلال أن يطور أدواته أيضاً، لتمتد سلطة الرقيب العسكري الإسرائيلي إلى النوافذ الرقمية، مستفيدة من تغولها على أركان الصحافة العالمية، ووسائل التواصل الاجتماعي، لتواصل حملاتها القمعية ضد المثقف الفلسطيني من خلال منع أو حجب النشر أو اتهامه بمعاداة السامية أو أغلاق المدونة أو تجميد الحساب الخاص بالناشر.
"أدب المقاومة الفلسطينية هو امتداد المقاومة العالمية"
الكاتب والباحث وعضو الأمانة للاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين شفيق التلولي يقول لـ"شبكة قدس": "بالتأكيد أدب المقاومة الفلسطينية جزء منظومة المقاومة في الأدب العالمي، والأدب هو بالأساس موروث إنساني يمتد منذ مئات الأعوام، فالإنسان منذ نشأته يكتب ويسطر الكلمة الأولى التي واكبت الإنسان وتعتبر لسان حاله، ومن ثم تعددت أشكال الثقافة للشعوب مثل الصورة والموسيقى، وأصبح الإنتاج الأدبي يترجم على مستوى العالم".
ويضيف التلولي: "الأدب الفلسطيني له خصوصية في أدب المقاومة كما قال الشاعر الكبير محمود درويش، وسطر غسان كنفاني من خلال كتابه عن أدب المقاومة الفلسطينية صوراً مهمة في الأدب الفلسطيني، حيث استطاع أن يشكل رافعة للمقاومة الفلسطينية".
وتابع: "من خلال الكلمة وما أنتج الكتاب والأدباء تعدوا حدود القول إلى الفعل المقاوم، فالكلمة أيضا رصاصة، والكلمة أيضا معبرة وترافق السلاح ضد الرواية الإسرائيلية".
نملك الأدوات
"استخدم الأدب الفلسطيني أدوات عدة من خلال الروايات التي أصدرها، وإن كان الاحتلال حاول اغتيال الكلمة من خلال اغتيال رموزها، لأنها شكلت هزيمة للرواية الإسرائيلية، فسابقاً أصدرت الأعمال الأدبية بشكلها التقليدي" كما يقول التلولي.
ويضيف: "ومع بدء الثورة التكنولوجية في التسعينات وظهور المدونات والمواقع بات الأدب الفلسطيني يسبح في الفضاء الإلكتروني، ليعري ويفضح زيف الرواية الإسرائيلية ويهدم الأسس التي حاول الأدب الإسرائيلي تسويقها، ويثبت للعالم أن للشعب الفلسطيني حق تاريخي على هذه الأرض".
محاربة التطبيع
وفي ظل حمى التطبيع التي وقعت فيه بعض الأنظمة العربية وتساوق معها عدد من المحسوبين على الكتاب والأدباء والمثقفين، يعتبر التلولي التطبيع الثقافي أخطر أنواع التطبيع على القضية الفلسطينية والشعب العربي.
ويقول: "رأينا أيضا جبهة عربية من المثقفين، وبخاصة من الفلسطينيين تصدت بشكل كبير للتطبيع، وما زال المثقف الفلسطيني يواجه هذا الموضوع ورأينا العديد من مواقف للمثقفين الفلسطينيين الذين واجهوا التطبيع بكل أشكاله، فالثقافة بمفهومها الشمولي أعم وأكبر من المفهوم السياسي".
ويضيف: "الاحتلال قام بقتل واغتيال الرموز الفكرية والثقافية، أما الآن فتطورت الأساليب الإسرائيلية لاغتيال الكلمة من خلال بث دعايات إسرائيلية للعالم وتصوير الإنسان الفلسطيني على أنه إرهابي، وتصوير المثقف الفلسطيني بأنه يحرض على الاحتلال الإسرائيلي، وتشويه مفهوم المقاومة".
ويتابع: "يقوم الاحتلال دوماً بإغلاق واختراق وقرصنة حسابات المثقفين والكتاب والأدباء الفلسطينيين، لقتل الرواية الفلسطينية التي تحاول فضح وكشف جرائم الاحتلال فالآن تبدلت جميع أساليبه، تماهيا مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي والتي موطنها الولايات المتحدة الأمريكية الداعم الأول للاحتلال، والتي تحاول تثبيت الرواية والفكر الإسرائيلي على حساب الرواية الفلسطينية".
ويرى التلولي أنه رغم كل ذلك إلا أن الرواية الفلسطينية والمثقف الفلسطيني تمكن من المراوغة في هذا الفضاء الإلكتروني، ونجح في تسجيل حضوره ومادته وفكرته رغم محاربة المحتوى الفلسطيني.
ويستذكر التلولي اعتقال الاحتلال له سابقاً في محاولة للتضييق على الكتاب ولجمهم ومنعهم من التغريد بحرية، وأنه واحد من عشرات أصحاب الأقلام والتأثير الذين يحاربهم الاحتلال.
ويختتم التلولي حديثه قائلا: "أعتقد أن الأدب الفلسطيني يشق طريقه رغم الصعاب، والمطلوب الكثير في هذا السياق، كثيرة هي المعيقات مثل الاحتلال والحصار والانقسام الذي يحد من عمل أدبي موحد، ولكن رغم ذلك فالثقافة توحدنا، وهناك عملية تراكمية في الأدب الفلسطيني، وهناك ثورة أدبية كبيرة تشهدها فلسطين".
مقاومة بكل الوسائل
الكاتب والروائي الشاب يسري الغول يقول لـ"شبكة قدس": "في ذكرى وفاة غسان كنفاني نستذكر أيضاً المثقف والمقاوم الشهيد باسل الأعرج، ونحن الآن أمام محتل غاشم، ولذلك يجب أن تكون هناك مقاومة ضد الاحتلال بكل الوسائل والأدوات، ومن أهم هذه الأدوات هي المقاومة بالثقافة، مثل المقاومة بالكلمة وبالريشة وبالمسرح وأيضا بالفيلم السينمائي".
ويضيف الغول: "الآن مع تطور مواقع التواصل الاجتماعي، أعتقد أننا يجب أن نفكر في استثمار الجانب الثقافي في هذه المواقع، وهذه الوسائل لا تعفي الكتاب من المسؤولية عن التنظير لقضايانا الوطنية، بمعنى يجب أن يكون المثقف الفلسطيني مثقفا ملما بكل الوسائل والأدوات ويمتلك القدرة على إقناع الآخر".
ويتابع الغول: "يجب التركيز على عولمة العمل الأدبي بما يتماهى مع أفكار الغرب، وكيف أن تصل رسالتي للغرب بالطريقة التي يفهمها، حيث أن لغة العالمية والإنسانية لغة شمولية، يجب من خلالها أن نوصل رسائلنا بأننا تحت نير الاحتلال ويجب أن نتحرر منه ".