شكل الاغتيال الدموي للناشط نزار بنات أثناء اعتقاله من قبل أجهزة أمن السلطة نقطة فارقة في الوضع الداخلي الفلسطيني، لا تقل أهمية وخطورة عن التحول الذي مثلته انتفاضة القدس الأخيرة، التي شملت القدس والضفة الغربية وغزة والداخل المحتل منذ عام 1948.
لم تشهد الأراضي المحتلة في الضفة الغربية أحداثا بهذا المستوى من قبل، ولم تظهر السلطة "عارية" وطنيا وأخلاقيا بمثل هذا الوضوح قبل الآن، لأن الفشل في أداء السلطة في مجال إدارة الشأن الداخلي وموضوعة حقوق الإنسان جاء بعد كشف عوارها في الشأن الوطني أيضا، على صعيد مقاومة الاحتلال. هي لحظة الكشف التي لم تعد تخفى على أحد، اللهم إلا أولئك الذين يستفيدون من الوضع الراهن.
ما جعل اغتيال نزار بنات مختلفا عن كل جرائم السلطة السابقة وطنيا وداخليا هو أن كل عيوب السلطة تكثفت في عملية واحدة. أول العيوب هو إسكات صوت مناهض للاحتلال، فالاختلاف بينه وبين السلطة لا يتعلق بمصلحة خاصة، أو حتى بخصوص تسيير الوضع الداخلي، ولكنه أساسا خلاف على أداء السلطة الوطني، وعلى طريقة تعاطيها مع الاحتلال. جاء الاغتيال بعد انتقادات نزار بنات لصفقة اللقاحات المشينة التي كانت السلطة ستحصل بموجبها على لقاحات تنتهي صلاحيتها قريبا مقابل حصول الاحتلال على لقاحات جديدة، وهي صفقة تظهر سلوك السلطة بوضوح مع الاحتلال، حينما تفضل "الإسرائيليين" على مواطنيها.
خلقت عملية الاغتيال مفارقة وطنية أخرى أمام الشعب الفلسطيني، فأجهزة السلطة التي وقفت صامتة وعاجزة أمام الاحتلال خلال أحداث القدس الأخيرة، والتي تمتنع عن مواجهة أي اقتحام تنفذه قوات جيش الاحتلال في الضفة الغربية، هي نفسها التي اقتحمت بيت نزار بنات مثل "لصوص الليل" واغتالته بعد تعريضه للضرب والتعذيب. هذه المفارقة أكدت لكل فلسطيني أن قوات أمن السلطة وجدت لحماية المحتل، والتنسيق معه، والأدهى أنها تمارس سلطتها وقمعها فقط ضد الفلسطيني.
كشف الاغتيال أيضا عدم اكتراث السلطة بحقوق الإنسان، وعدم تحملها للنقد. تصرفت كأي نظام قمعي عربي يقتل معارضيه على طريقة العصابات بسبب آرائهم. ومع أن القمع وانتهاكات حقوق الإنسان مرفوضة ومدانة دائما، إلا أنها أكثر فداحة وإجراما عندما تأتي من سلطة ذاتية تحكم شعبها تحت الاحتلال. يصبح الفلسطيني هنا في دوامة قمع مزدوجة، بين الاحتلال - الذي من الطبيعي أن يكون قمعيا - وبين السلطة التي يفترض أنها تمثله. يستطيع الفلسطيني أن يقاوم الاحتلال بدون هوادة، ولكنه يقف عاجزا أمام الجنود من أبناء جلدته لأنه يدرك دائما أن صراعه الأساسي هو مع الاحتلال. هكذا تساهم السلطة ليس فقط في القمع، ولكن في تحريف البوصلة الوطنية.
تصرفت السلطة بعد الاغتيال كأي نظام عربي قمعي. أسقطت النظرية التي أطلقها الراحل ياسر عرفات وطبقها إلى حد كبير، ونعني هنا شعار "ديمقراطية غابة البنادق"، والذي لم يعبر يوما عن ديمقراطية تمثيلية حقيقية، ولكنه شعار أتاح للنقد والصراعات الداخلية دون اللجوء للسلاح، في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية. تحمل عرفات كل النقد والاتهامات بل والانشقاقات، مع أنه كان يملك شرعية وطنية تمثل جميع فئات الشعب الفلسطيني آنذاك، فيما تعجز سلطة بائسة تنسق مع الاحتلال وتفتقد لأي شرعية وطنية أو انتخابية عن تحمل الآراء وتقتل المعارضين.
وإضافة للقمع وقتل الديمقراطية بحدها الأدنى، فقد لجأت السلطة لممارسات بدائية لا تصلح لحركة تحرر وطني. مارست الإنكار ببيان يتحدث عن وفاة طبيعية بعد قتل نزار بنات، ثم أصدرت بيانات بائسة عن التحقيق بعد الضجة التي أحدثتها الجريمة، ثم لجأت للبلطجية من رجال أمن بلباس مدني لمهاجمة المحتجين على الاغتيال، ثم لجأت لإصدار بيانات عشائرية مؤيدة للرئيس، خصوصا من مدينة الخليل التي ينتمي لها نزار بنات. هذه الممارسات أظهرت عورة السلطة كما لم تظهرها من قبل، فهي ليست سوى سلطة بدائية تتماهى مع ممارسات الأنظمة القمعية العربية الأخرى، ولكنها للمفارقة تصدر من سلطة يفترض أنها تمثل "حركة تحرر وطني"!
في الأوضاع الطبيعية لا يوجد حل "وحيد" لأي أزمة سياسية، إذ أن السياسة هي نتيجة لتفاعل عدة عوامل متناقضة وحسابات ربح وخسارة معقدة، ولكن بعد كل ما كشفته عملية اغتيال نزار بنات وما تلاها وسبقها من أحداث، فقد بات واضحا لكل فلسطيني أن المأزق الوطني الفلسطيني لا يوجد له سوى حل وحيد، وهو التخلي عن هذه السلطة ونزع الشرعية عنها.
يجب أن تتحمل الفصائل الفلسطينية وخصوصا حركة حماس مسؤوليتها تجاه نزع الشرعية عن هذه السلطة، ورفض أي حوار مع حركة فتح تحت سقف أوسلو. الحوار الفلسطيني يجب أن ينطلق من أساس وطني للاتفاق على وسائل مقاومة الاحتلال، وليس على طريقة إراحة "إسرئيل" من مسؤوليتها ومنحها احتلالا ثمنه "صفر" سياسيا واقتصاديا وأمنيا. كان الحوار الفلسطيني في معظم جولاته منذ عام 2006 مبنيا على أسس خاطئة، ولم يتمكن من الخروج من شرنقة أوسلو. وإذا كانت حماس وغيرها من الفصائل كانت تحاول بذلك إنهاء الانقسام، فإنها ترتكب خطأ كبيرا. لا نهاية للمأزق الفلسطيني أو الانقسام سوى بعزل السلطة ونزع شرعيتها، والضغط على فتح لتتخذ خيارها: إما أن تكون كما يقتضي تاريخها جزءا من الشعب والمقاومة، أو تكون حزاما سياسيا لسلطة ثبت أنها ساقطة في كل المجالات: وطنيا وحقوقيا وفي تسيير الشأن الداخلي.
كان هذا الخيار واضحا منذ 2006، وطالب به كثير من الكتاب والنخب الفلسطينية، ولكنه الآن صار أوضح بعد انتصار المقاومة والوحدة الشعبية حول خيارها أثناء انتفاضة رمضان الأخيرة، وبعد جريمة اغتيال بنات وتداعياتها.