أثار المقال السابق "حول "شرعية" السلطة واستقالة الرئيس" اهتمامًا كبيرًا بين مؤيد، وهم الأغلبية، وبين معارض، وهم أقلية، وبين من تحفّظ وقدّم ملاحظات أو اقتراحات أو أسئلة.
لا أستطيع أن أعرض تصوّرًا شاملًا، ولا الإجابة عن كل الأسئلة والملاحظات، ولا التفاعل مع كل الاقتراحات؛ لأن الأمر فوق طاقتي، وبحاجة إلى جهد وطني جماعي ومؤسسي مثابر، حتى نتمكن من الإجابة المطلوبة، ونسير بثقة وثبات في الطريق الذي يوصل إلى بر الأمان.
سأحاول في هذا المقال تقديم ملامح لخارطة طريق يمكن أن تؤدي إلى تحقيق التغيير المطلوب الذي بات ملحًا بعد معركة القدس.
هناك أربعة طرق للتغيير:
الطريق الأول من خلال الانتخابات، وهو الطريق الأمثل والسلمي الذي يحفظ المسيرة والسلطة والمنظمة، ويَحول دون نشوء فراغ يمكن ملؤه بالفوضى والفلتان الأمني وتعددية السلطات واقتتال مراكز القوى والسلطتين الحاكمتين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولكن الانتخابات ممنوعة بتوافق، محلي إقليمي دولي، حتى إشعار آخر، لأن الرئيس قرر وصادقت القيادة على تأجيل الانتخابات، على أن تعقد عندما توافق إسرائيل على إجرائها بالقدس، وهي لن توافق إلا إذا جاء عقد الانتخابات في مصلحة الاحتلال، وتفهّم المجتمع الدولي والأطراف المؤثرة فيه هذا الموقف. ومن المعلوم أن التأجيل يرجع إلى الخشية من النتائج، وهذا الأمر تفاقم بعد معركة القدس، وانعكاسها على زيادة شعبية "حماس".
وهنا لا يجب رغم ما سبق التسليم بإلغاء الانتخابات، بل لا بد من الكفاح والضغط من أجل عقدها بأسرع وقت ممكن، وعدم الاكتفاء بالعرائض، وهذا لا يتأتى إلا بتبلور تيار شعبي جارف متعاظم عابر للفصائل والتجمعات الفلسطينية، حتى يستطيع فرض إجراء الانتخابات كجزء من رزمة شاملة قادرة على إحداث التغيير المطلوب. وهو تيار يجب أن يضم كل القوى والكيانات والأفراد المؤمنة بالانتخابات التي من مصلحتها إجرائها.
وحتى نصل إلى هذا الحد، لا بد أن يجمع هذا التيار أكثر من الاتفاق على نقطة واحدة، وهي الانتخابات، وإنما الاتفاق على رؤية شاملة وإستراتيجية واحدة وبرنامج يجسد القواسم المشتركة. وما يستدعي قيام هذا التيار بحمل الرزمة الشاملة التصدي للأطراف المحلية والخارجية التي تعيق إجراء الانتخابات، فضلًا عن التصدي لدور الاحتلال الوازن المعرقل للانتخابات، الذي سيصب ضد إجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها ومن شأنها تقوية الفلسطينيين وتكون تتويجًا لعملية إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة.
يمكن أن يبدأ التيار بمشاركة كل من يوافق على مكوناته، ويعمل من أجل التوسع والتقدم باستمرار، ويسعى لتحقيق أهدافه عبر الضغط السياسي والجماهيري والقانوني.
أما الطريق الثاني لإحداث التغيير، فهو من خلال الانقلاب والاستعانة بأطراف وقوى خارجية لمنع تبني خيارات فلسطينية قادرة على تحقيق الخلاص الفلسطيني، وتغيير الوضع الفلسطيني وترويض الفلسطينيين أكثر لصالح بقاء حالة إدارة الصراع كحد أدنى، وتمرير الحل الإسرائيلي التصفوي للقضية الفلسطينية كحد أقصى؛ أي الاستعانة بالشيطان لتحقيق الخلاص من الوضع، في حين أن من يستعن بالشيطان يصبح عبدًا له.
وهذا الطريق هو طريق الدمار والموت، ولا يمكن لأي وطني ومخلص للقضية أن يدعو إليه أو يشارك فيه بحجة الغاية تبرر الوسيلة، ولعل ما جرى في سوريا وليبيا والسودان واليمن مجرد نماذج عن الكوارث التي يقود إليها مثل هذا الطريق.
أما الطريق الثالث فهو طريق الثورة والانتفاضة بغرض إحداث التغيير، وهو طريق مستبعد اللجوء إليه، ولا أنصح بذلك لأن التناقض الأساسي مع الاحتلال، والثورات والانتفاضات يجب أن تنظّم ضده، وذلك بسبب طبيعة الصراع، وكون الاستعمار الاستيطاني العنصري الإحلالي الاحتلالي غير قابل ولا مستعد للتسوية، ويستهدف الفلسطينيين جميعًا، ولا يميز بين فلسطيني وآخر، بين معتدل ومتطرف، بين عبد وعبد، وهو رغم كل الفوائد المترتبة على السياسات والالتزامات الفلسطينية يريد منها أن تقدم أكثر.
ويبقى الطريق الرابع، وهو الحوار لإنجاز التوافق الوطني المبني على المبادئ والحقوق وتوازن المصالح والقوى، الذي يحقق التغيير من خلال تحقيق نوع من الشراكة يمكن تحقيقها على المدى المباشر تسمح بإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، بحيث تتسع لمختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الفلسطيني، وتتماشى - من دون خضوع - مع الأوضاع الإقليمية والدولية، من خلال اعتماد الشرعية الدولية وليس اتفاق أوسلو والتزاماته كإطار للعمل السياسي في هذه المرحلة.
إن تحقيق هذا الهدف صعب، أما تصوّر قيام منظمة تحرير كما كانت أيام النهوض الفلسطيني والعربي، من دون تغيّرات في المنطقة والعالم، فهو هدف بعيد المنال حتى إشعار آخر.
وحتى يتحقق التوافق الوطني المطلوب، لا بد من تنظيم حوار وطني شامل يشارك فيه ممثلون عن مختلف الكيانات والمجموعات والفصائل من داخل الوطن وخارجه، يستهدف التوصل إلى اتفاق رزمة شاملة يقوم على شراكة حقيقية، من دون تخوين ولا تكفير ولا إقصاء، ولا تفرد فردي أو فئوي أو فصائلي، ويستند إلى المبادئ والحقوق وتوازن المصالح والقوى. فحركة فتح والرئيس يحظيان بالشرعية العربية والدولية والدعم المستند إلى الخشية من حدوث فراغ تملؤه قوى غير مسيطر عليها، والمدعوم من السيطرة على مؤسسات المنظمة والسلطة في الضفة.
أما حركة حماس فتحظى بالقوة وشرعية المقاومة وعلاقات ودعم إقليمي وشعبي، وهي تسيطر على السلطة في القطاع، وأثبتت سنوات الانقسام، بما في ذلك خلال الفترة الأخيرة، أن رهان كل طرف على سقوط أو انهيار أو اختفاء الطرف الآخر في ظل التوازن الإقليمي والدولي القائم رهان خاسر.
كما لا يمكن من دون إنجاز الوحدة إنهاء الحصار عن قطاع غزة، وإعادة إعماره، ووقف توغل الإحتلال والاستعمار الاستيطاني في الضفة، ووقف تهويدها في القدس تحديدًا، ووقف التمييز العنصري في أراضي 48، وتمكين شعبنا في أماكن اللجوء والشتات من ممارسة حقوقه والحفاظ على هويته الوطنية، لا سيما بعد سقوط دونالد ترامب وصفقته المشؤومة، وتزايد احتمال سقوط بنيامين نتنياهو وسياسته الرامية إلى الاستثمار في الانقسام الفلسطيني، وتبوء حكومة إسرائيلية جديدة يمكن أن تمارس سياسة أكثر عدوانية وتطرفًا ضد القطاع، وفي ظل سعي إدارة بايدن لتخفيف وجودها في المنطقة، والتفرغ للصين وروسيا، والعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وسعيها للحفاظ على الروابط بين الضفة والقطاع لإبقاء خط السير نحو حل الدولتين سالكًا.
كما نشهد في هذا الإطار حراكًا مصريًا متميزًا يهدف للعب دور محوري في قطاع غزة لتثبيت وقف إطلاق النار، وإعادة الإعمار، وفتح مسار سياسي يربط القطاع بالضفة، ويمنع انهيار غزة أو تحوّلها إلى كيان منفصل أو ارتمائها في حضن مصر، وسط مصالحات مصرية تركية قطرية وخليجية إيرانية.
ما سبق يوضح التقاء مصلحة الأطراف الفلسطينية ومصلحة أطراف إقليمية ودولية بضرورة ترتيب البيت الفلسطيني، أو تهدئته على الأقل، حتى يكون هناك عنوان واحد، خصوصًا أن استمرار الوضع الراهن لم يعد مضمونًا استمراره، بل مفتوح على احتمالات عدة، من بينها تجدد المواجهات العسكرية في ظل سيطرة التطرف على المشهد السياسي الإسرائيلي، التي تتزايد إمكانية تحوّلها إلى حرب إقليمية إذا اندلعت ستكون لها عواقب وخيمة.
هناك فرصة تلوح في الأفق لشراكة فلسطينية فلسطينية على أساس برنامج القواسم المشتركة، وبما لا يتعارض مع الشرعية الدولية، وعلى الفلسطينيين التقاطها قبل فوات الأوان. وهذا يتطلب الإقلاع عن الصفقات الثنائية وتجريب المجرب، والتنازل عن المصالح الفردية والفئوية، والتمسك بالمصالح الوطنية، وبهدف تغيير السلطة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير على أساس إستراتيجية وطنية كفاحية تجسّد القواسم المشتركة، إضافة إلى إجراء الانتخابات بشكل دوري في جميع القطاعات وعلى كل المستويات.