كشفت ردود أفعال الحكومة و السلطات الفرنسية إزاء الجرائم الأخيرة التي إرتكبها الكيان الإسرائيلي في حق الفلسطينيين, إنحياز فرنسا "التام" للسياسات الإسرائيلية, و تأييدها غير المشروط للإنتهاكات المرتكبة في حق الفلسطينيين, و التي أقل ما يقال عنها "جرائم حرب".
حيث تمثلت الأحداث الأخيرة في حملة "التطهير العرقي" التي طالت أهالي حي الشيخ جراح، و إقتحام شرطة الإحتلال المسجد الأقصى و تعنيف المصلين و المدنيين إلى حد إستعمال "الذخيرة الحية"، ثم القصف الصاروخي على قطاع غزة الذي دام 11 يوما، والذي راح ضحيته أكثر من 288 شهيدا, من بينهم أطفال و نساء و مسنين. فضلا عن تدمير آلاف المباني السكنية, و المرافق الطبية, و المدارس، و حتى مقرات حكومية و منظمات إنسانية و دولية.
و من جهتها, تقدمت باريس بمقترح أممي لوقف التصعيد بين المقاومة الفلسطينية و الإحتلال الإسرائيلي، بمعية القاهرة و عمان بتاريخ الأربعاء 19 مايو، إلّا أن هاته الخطوة الدبلوماسية لا تشفع لفرنسا-ماكرون إذا ما قورنت بسياساتها على أرض الميدان تجاه القضية الفلسطينية و مواقفها من جرائم الإحتلال الإسرائيلي خلال نفس الظرف الزمني.
و قال الرئيس الفرنسي –إيمانويل ماكرون- في محادثة أجراها مع رئيس وزراء الإحتلال الإسرائيلي عقب التصعيد العسكري الأخير: "إن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها". بينما أدان "بشدة" إطلاق الصواريخ من طرف حماس و فصائل المقاومة الأخرى و وصفها ب"الإرهابية"، و التي كانت بمثابة رد من المقاومة على الجرائم التي إرتكبها الإحتلال الإسرائيلي في حق أهالي حي الشيخ جراح, و عدوانه على حرمة المسجد الأقصى و على المصلين المدنيين.
كما تغاضى إمانوويل ماكرون في حديثه عن ضحايا القصف العشوائي الإسرائيلي على قطاع غزة، و الذي أسفر عن مقتل أكثر من 69 طفلا و 40 سيدة و 17 مسنا، و خلّف أكثر من 8900 مصاب, من بينهم 560 طفلا، و 380 سيدة و91 مسنا، و أكثر من 90 حالة إصابة "خطرة".
فضلا عن تدمير منشآت زعمت إسرائيل أنها استخدمت من قبل فصائل المقامة لإطلاق الصواريخ، إلاّ أن المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة –ميشيل باشليه- شددت في اجتماع طارئ لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة المنعقد يوم 27 مايو, على أنها "لم تتلق أية أدلة على أن الأبنية المستهدفة كانت تستخدم لأغراض عسكرية".
و أضافت ميشيل باشليه: "الضربات الجوية الإسرائيلية على غزة، خلفت العديد من القتلى و الجرحى و ألحقت دمارا و أضرارا واسعة النطاق بالممتلكات المدنية, واشتمل ذلك على مقرات حكومية و منازل و أبنية سكنية و منظمات إنسانية دولية و مرافق طبية و مكاتب إعلامية و طرقا تتيح للمدنيين الوصول إلى الخدمات الأساسية كالمستشفيات ", كما أشارت إلى أنه في حال ثبوت إستهداف الهجمات الإسرائيلية لمدنيين و أهدافا مدنية بشكل عشوائي, فسيشكل ذلك "جرائم حرب".
و مسبقا, كانت الجنائية الدولية قد حذرت من إرتكاب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية خلال التصعيد الأخير, بينما نددت إسرائيل تلك الإدانة و إتهمت مكتب المدعية العامة للجنائية الدولية ب"معاداة السامية", و أيضا, فقد قدّم 25 نائبا بالكونغرس الأمريكي إلى وزير خارجية أمريكا, رسالة مفادها أن الممارسات الإسرائيلية الأخيرة و التي اشتملت على التهجير القسري لأهالي حي الشيخ جراح و هدم بيوت ما يقارب 2000 فلسطيني في حي البستان مؤخرا, تعتبر "جرائم حرب".
و رغم كل هاته الإدانات للإنتهاكات التي إرتكبتها إسرائيل خلال الأحداث الأخيرة في حق المدنيين, و تصنيفها ك"جرائم حرب" من طرف هيئات دولية و داخل برلمانات دول حليفة لإسرائيل, إلا أن فرنسا-ماكرون أبت إلا أن تغض الطرف عن كل تلك الجرائم.
و وجه النائب في البرلمان الفرنسي –ميشيل لاريف- إنتقادا شديد اللهجة لموقف الرئيس الفرنسي –إيمانويل ماكرون- من الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية، و أكد أن "ماكرون منحاز لإسرائيل" و أن "باريس تتبنى الرواية الإسرائيلية للأحداث". كما حث فرنسا على تصحيح مواقفها حيال ما يحدث, و التمسك بالقوانين الدولية التي تعتبر و بوضوح أن الشعب الفلسطيني شعب محتل.
و في تصريح له لوكالة سبوتنيك قال: "الحكومة الفرنسية اليوم تدعم حكومة بنيامين نتنياهو-تصريف الأعمال المتطرفة"، و أضاف: " سياسة حكومة نتنياهو هي الإخلاء القسري لسكان حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية المحتلة و سياسة ضم الأراضي".
أما عن داخل فرنسا, فقد هاجم رجال الشرطة بالعاصمة الفرنسية –باريس-, المتظاهرين المحتجين على التهجير التعسفي و الجرائم التي إرتكبها الإحتلال الإسرائيلي ضدد المدنيين خلال الأحداث الأخيرة بفلسطين و لم تتوانى الشرطة الفرنسية عن إستعمال الغاز المسيل للدموع و خراطيم المياه الساخنة و الضرب بالعصي و اعتقال المتظاهرين و الناشطون المؤيدين للحق الفلسطيني.
و سابقا كان قد دعا ناشطون بفرنسا إلى التظاهر في حي "باربيس" شمالي العاصمة الفرنسية ليوم السبت 15 من مايو، تزامنا مع ذكرى يوم النكبة, و مع الهجمات الأخيرة لقوات الإحتلال الإسرائلي على المدنيين في القدس و في قطاع غزة، و حملات التهجير القسري و مصادرة بيوت و أراضي الفلسطينيين التي إنتهجها الإحتلال، خاصة قضية "حي الشيخ جراح" الأخيرة.
و ردًا على ذلك, أمر و زير الداخلية الفرنسي – جيرالد دارمان- بحظر المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، ونشر يوم الخميس السابق لموعد إنطلاق المظاهرات تغريدة على تويتر كتب فيها: " أعطيت أوامر لقائد الشرطة بباريس بحظر أي تظاهرة يوم السبت لها علاقة بالإضطرابات الأخيرة في الشرق الأوسط", و علل الوزير قراره بما وقع سنة 2014, حيث تسببت الإحتجاجات المنددة بعدوان إسرائيل على قطاع غزة آنذاك بإضطرابات في النظام العام بفرنسا على حد زعمه. كما نشر أكثر من تغريدة حول تلك الواقعة بغية كسب تأييد الرأي العام و قادة الشرطة في قرار حظر المظاهرات المساندة للفلسطينيين، و تصوير القرار على أنه ليس "إنحيازاً لإسرائيل و قمعاً للديمقراطية و حرية التعبير".
أيضا, يوم الأربعاء 12 مايو, كانت الشرطة الفرنسية قد منعت مظاهرة أخرى مناصرة للفلسطينيين، و تم ذلك قبل إنطلاقها ب3 ساعات، بالعاصمة "باريس", على الرغم من أن المنظمون كانوا قد حصلوا على رخصة التظاهر من قبل مديرية الشرطة, كما اعتقلت الشرطة منظم المظاهرة "برتراند هايلبرون" –رئيس جمعية التضامن الفرنسي مع فلسطين-. و قد أفاد "برتراند هايلبرون" أنه قد تم إعتقاله مباشرة بعد انتهائه من إجتماع مع وزارة الشؤون الخارجية، كان يتناقش فيه أسباب "رفض" المظاهرة, حيث و بمجرد إنتهائه من الإجتماع, فوجئ ب 3 رجال شرطة ينتظرونه عند باب الوزارة لاعتقاله, رغم أنه إتبع كل الإجرائات القانونية.
و إنحصر الحظر فقط على التظاهرات المناصرة للفلسطينيين, حيث لم تحصل جمعيات أخرى فرنسية, على رخصة التظاهر للإحتجاج على العدوان الإسرائيلي, بينما جرت في نفس الأسبوع أنشطة و تظاهرات أخرى على غرار الإحتجاجات الحاشدة التي نظمت بفرنسا يوم الأحد 9 مايو ضد مشروع قانون بيئي.
و من جهتها, علقت رئيسة منظمة العفو الدولية –سيسيل كودريو- على حظر السلطات الفرنسية للمظاهرات المناهضة لجرائم الإحتلال الإسرائيلي, قائلة "إن قرار السلطات غير شرعي بموجب القانون الدولي, خاصة عند استخدام ذريعة خاطئة". و وصفت قرار الحظر ب"التعسفي", حيث أفادت أيضا:" لاحظنا تناقضا في إتخاذ الأزمة الصحية ذريعة لمنع التظاهرات, لأنه جرت مؤخرا مظاهرات حول المناخ و لم يتم منعها... إن قرار الحظر هو قرار تعسفي و لا يتماثل مع القرارات التي اتخذت سابقا".
و قد أشار الناشط الفرنسي ياسر اللواتي –رئيس لجنة العدالة و الحريات للجميع بفرنسا- في حوار أجراه مع وكالة الأناضول, إلى أن هذا التضيق المنتهج من طرف الرئيس ماكرون و حكومته ضد أنصار القضية الفلسطينية, يعد مؤشراً على إلتزام فرنسا التام بسياسات الكيان الإسرائيلي, تحت ذريعة أنها تحريض على "معاداة السامية", و أوضح : " إنّ الحظر الأخير لفعاليات التضامن مع فلسطين يعد استمرار للسياسات العنصرية الفرنسية". و تطرق أيضا –ياسر اللواتي- إلى الإعتقالات التي طالت العديد من النشطاء و المتظاهرين المتضامنين مع الحق الفلسطيني من طرف السلطات الفرنسية, و أفاد: "إن التصور القائم على أن فرنسا بلد الحريات تصوُّر كاذب".
و جاء إستنكار و تجريم حظر فرنسا للتظاهرات المؤيدة للفلسطينيون حتى على ألسنة سياسيون فرنسيون, حيث غرد زعيم الحزب اليساري "فرنسا المتمردة" –جان لوك ميلونشون- على تويتر يوم الجمعة 14 مايو: " فرنسا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تُحظر فيها أية تظاهرة مؤيدة للفلسطينيين و مناهضة للحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة", كما وُجهت إنتقادات شديدة لوزير الداخلية الفرنسي من قبل أحزاب المعارضة و نقابات و جمعيات حقوقية, و رأت في قرار الحظر إنحيازا للإحتلال الإسرائيلي, و تقييدا لحرية التظاهر و التعبير عن الرأي.
و يشار إلى أن تعاطف فرنسا مع القضية الفلسطينية إندثر تماما خلال فترة حكم إمانوييل ماكرون و حكومته، فمنذ إنتخابه رئيساً تغير خطاب فرنسا تجاه إسرائيل من المتحفظ في بعض النقاط المتعلقة بالقضية الفلسطينية إلى "الحميمي" و "المؤيد تماما".
و في نفس السياق، قال الكاتب السياسي و المستشار في العلاقات الدولية –ناصر زهير- في حديث له مع الجزيرة نت: "إن فرنسا كانت متعاطفة مع القضية الفلسطينية، و لكن هذا الموقف تبعثر في ظل حكومة إيمانويل ماكرون"، و أضاف: "أصبح خطاب الحكومة الفرنسية يتماشى مع اليمين المتطرف أو يحاول كسب أصواتهم".