تناقش المقالة التالية سلوك جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يحاول تبرير مجازره بحق المدنيين بالادعاء أنه يحاول تحييدهم عبر الاتصال عليهم لإخلاء منازلهم. إن الهدف النهائي لهذه الخطوة بعيد كل البعد عن أي هدف قانوني أو أخلاقي:
قد لا يصدق البعض، أنه حتى الحروب لها قوانينها، أولها وقبل كل شيء: يجب حماية المدنيين! فالهدف الأساسي من إبرام الاتفاقيات وما تلاها من مواثيق عامة وأعراف دولية، هو توفير حماية خاصة للإنسان المدني في زمن الحرب، والتي تعني منع أذاه، وتخفيف آلامه، وتقديم الرعاية له. وهذا يدعو إلى أن استهداف الآمنين، غير المشاركين في الأعمال القتالية، كلها أمور تخرج عن إطار أهداف الحرب، بالتالي تعد أعمالاً غير مشروعة.
والموت بالجملة، واحدة من أبرز جرائم آلة الحرب الإسرائيلية، التي تهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها في قطاع غزة، بزعم أنها تحوي على مصالح استخباراتية تابعة لحماس، وأن حماس تضع مصالحها العسكرية في قلب المجتمع المدني، وأن حماس تتستر وراءها وتستخدمها بمن فيها دروعاً بشرية لها. ويبرر جيش الاحتلال الإسرائيلي أن قتل المدنيين الآمنين يأتي بذريعة الخطأ، فسلاح الجو الإسرائيلي كان يستهدف شققاً سكنية يعتقد أن فيها عدداً من كبار قادة حماس، ليتبين لاحقاً أن الموجودين لا علاقة لهم بالحركة السياسية أساساً. إن سلوك قوات الاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك القوات الجوية، فريد من نوعه. حيث يتم القتل ثم التحقق من هوية المقتول، وليس العكس أبداً. ما يكشف أن المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم القادة العسكريون، يعطون الضوء الأخضر للإبادة الجماعية التي ترقى، وفق القوانين الدولية، إلى أعلى درجات الإرهاب الشامل.
لكن ما الذي تغير بعد ثلاثة حروب قامت رابعها في الأيام الأخيرة؟
بالطبع لم تتغير عادة الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا يقدم علناً أية معلومات حول الهجوم الذي قام به، بما فيه من أو ما الذي استهدفته، لكنه هذه المرة حاول أن يجعل من الاتصال على المدنيين لإخلاء منازلهم مبررا يؤكد أن الاحتلال اتخذ احتياطات لتقليل الضرر على أهل القطاع، السؤال هنا: هل الاتصال بالمدنيين وطلب إخلاء منازلهم قبل قصفها بصاروخ مباشر، مسألة قانونية تبرأ جيش الاحتلال فعلاً من تهمة استهداف السكان في غزة؟
في العدوان الإسرائيلي الرابع على شريط طوله 41 كيلو متراً وعرضه يتراوح بين 5 و16 كيلو متراً، وِثقت مكالمات هاتفية استخدم فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي تكتيكات مبطنة لإخلاء المباني السكنية من ساكنيها، بدواع أنها تشكل أهدافاً عسكرية، أي أنه يُمارس فيها نشاطات عسكرية، دون أن يُحدد أي نوع بالضبط من النشاط يعتبره عسكرياً؟.
مما دل على أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لم تفِ بالتزامها القانوني، الذي يُلزم أي سلطة عسكرية بإجراء تقييم دقيق لطبيعة هدفها العسكري، من أجل التأكد أنها تهاجم فقط المقاتلين المسلحين وأماكنهم المسلحة، وتتخذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب الضرر المدني العام.
وهذا بالتحديد ما التفت إسرائيل حوله، لتحافظ على وضعها القائم في مفهومها الواسع جداً، لما تعده هدفا عسكريا مشروعا. إذ حاولت إضفاء بعض الشرعية على ما قامت به، لإقناع المجتمع الدولي بأنها تدافع عن نفسها، دون تطبيق المعيار الواضح المنصوص عليه في القانون الدولي الإنساني.
وعبر مكالمات أجرتها المخابرات الإسرائيلية، من خلال شخص يعرف نفسه بأنه من جيش الاحتلال الإسرائيلي، متحدثاً اللغة العربية بشكل جيد، كان يتم الإبلاغ بضرورة إخلاء المبنى من ساكنيه في عشر دقائق، وإلا سيتم استهدافه فوق رؤوسهم. وهذه الاتصالات التي لا تبرر حق "إسرائيل" في استهداف المباني السكنية ولا العائلات التي تقطنها، نُفذت بزعم جدية التأكد بإخلاء المدنيين العزل من محيط الهدف العسكري الذي لم يعلن عن ماهيته صراحة، ما جعل آلاف الفلسطينيين عالقين على حافة انهيار الوضع الإنساني، يغادرون منازلهم في أوضاع ترقى إلى النقل القسري.
لماذا تعد هذه الخطوة تضليلا صريحا وتلاعبا علنيا بقواعد الحرب؟
وفقاً لقانون التمييز بين المنشآت العسكرية والمنشآت المدنية، فإن الأولى هي تلك التي تسهم إسهاماً فعلياً في العمل العسكري، ويوفر تدميرها الكلي أو الجزئي أو الاستيلاء عليها فائدة عسكرية لأي طرف من الأطراف المتحاربة. أما الثانية، فهي المباني العامة التي لا تستخدم لأغراض عسكرية، وبالتالي لا يجوز إلحاق الضرر بها أو بمن فيها. وفي حال استخدامها لأي غرض عسكري، فإنه يجوز للعدو مهاجمتها، بشرط إبلاغ السكان بإخلاء مساكنهم قبل استهدافها المباشر.
وهنا ادعت "إسرائيل" مرة أخرى بأن حماس تقوم باستغلال المدنيين كدروع بشرية فتقوم بأعمال عسكرية من بينهم، دون أن تقدم أي دليل على صحة إدّعائها. ومن خلال التكنولوجيا الحديثة التي وثقت ما وثقته، نرى أن إطلاق الصواريخ تم في مناطق غير سكنية، وليس حتى من أسطح منازل قيادات الحركة. ولهذا يصبح من المستحيل معرفة ما إذا كان قصف المنشآت المدنية مبرراً، دون معرفة الشيء الذي كان الجيش يستهدفه، وترك وراءه أضراراً لحقت بـ 16800 وحدة سكنية، من بينها 1800 أصبحت غير صالحة للعيش، بينما دمرت 1000 وحدة سكنية بالكامل، فيما تعرضت 5 أبراج سكنية تتوسط مدينة غزة للهدم الكلي. وهذا تسبب بنزوح أكثر من 120 ألف شخص من منازلهم، إما بسبب هدم بيوتهم، أو هرباً من القصف العشوائي، منهم 50 ألف في مراكز الإيواء، وأكثر من 70 ألف خارج المراكز لدى الأقارب والأصدقاء، في ظل ظروف اقتصادية على الحافة وإنسانية في غاية التعقيد.
ووفقاً للقانون الدولي الإنساني، فإن الغارات الإسرائيلية غير قانونية، والعديد من عمليات القصف تقع في مساحة ضيقة ذات طابع مدني، جرّدها القصفُ الإسرائيلي الكثيف من الأماكن الآمنة التي يمكن للمدنيين اللجوء إليها، بعد أن قام باستهداف المدنيين والمنشآت المدنية والبنى التحتية المدنية، واستباح تدمير المنازل على رؤوس قاطنيها، فقتل مدنيين عزل، وأوقع جرحى بينهم، وهدد حياة عدد هائل منهم بعد أن مسح أحياء سكنية كاملة. فالضحايا لم يكونوا مقاتلين، ولم يتواجدوا في مواقع يتواجد فيها أي مقاتلين، ليصبحوا أهدافاً عسكرية. ويجب وصف هذا التلاعب – اتصال الإخلاء- بالتسمية القانونية، باعتباره ليس جريمة حرب فحسب، وإنما جريمة ضد الإنسانية أيضاً.