فلسطين المحتلة - قُدس الإخبارية: مثلت حرب حزيران 1967 ذروة صعود دولة الاحتلال عسكرياً وسياسياً، بعد أن هزمت جيوش الدول العربية الأكبر في المنطقة، واحتلت الضفة وغزة وسيناء والجولان، ورسخت فكرة أنها قادرة على خوض الحرب في أكثر من جبهة.
في الحروب الأخيرة التي خاضتها دولة الاحتلال مع قوى المقاومة في غزة ولبنان، بات واضحاً فقدانها قدرتها على الحسم والهجوم المبكر، ودخولها في حالة من "التيه" العسكري والاستراتيجي، وأحيط بفكرة قدرتها على خوض الحرب على جبهات متعددة كثير من الشك وعدم اليقين.
في معركة سيف القدس بين المقاومة في غزة وجيش الاحتلال، عادت فكرة اندلاع حرب على جبهات متعددة إلى التداول بقوة في الأوساط السياسية والعسكرية لدى المقاومة وداخل دولة الاحتلال، عزز منها تصريحات قائد حركة حماس في غزة، يحيى السنوار، وأمين عام حزب الله اللبناني، حسن نصر الله، حول معادلة "المساس بالقدس سيقود لحرب إقليمية".
يعتقد محللون وخبراء عرب وفي دولة الاحتلال أن معركة "سيف القدس"، خلقت معادلات جعلت الحراك السياسي والعسكري في المنطقة، ليس كما كان قبلها، وشجعت أعداء دولة الاحتلال على طرح فكرة خوض مواجهة متعددة الجبهات، بجرأة أكبر، بعد أن أثبتت المقاومة الفلسطينية في غزة قدرات نوعية في إدارة المعركة عسكرياً ونفسياً وإعلاميا واستخباراتياً.
الحراك الذي أحدثته المعركة لم يتوقف عند الضفة والداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، بل تخطت آثاره إلى الوطن العربي والإسلامي، الذي أثبت وهن مسار التطبيع الذي دخلته أنظمة عربية عديدة، في السنوات الأخيرة، على قتل القضية الفلسطينية وتحطيم قداستها في الوعي الشعبي العربي والإسلامي، وهو خطر إضافي يعيد لدولة الاحتلال مخاوفها من المحيط المعادي الذي قد اينخرط في المواجهة مستقبلاً.
شكل سلاح الطيران الذراع الأقوى في حروب دولة الاحتلال الإجرامية على الفلسطينيين والعرب، لكن هذه اليد يبدو أنها تحولت إلى عبء على جيش الاحتلال، الذي كما يؤكد قادة سابقون فيه ومحللون عسكريون يعيش مأزقاً في عمل الأذرع الأخرى وأهمها البرية، وظهرت نتائج الأداء السيء للقوات البرية في حروب غزة ولبنان.
ويذهب محللون إلى أن فكرة اجتياح غزة برياً باتت تتراجع من الفكر العسكري الإسرائيلي، بعد الخسائر الفادحة التي لحقت بوحدات النخبة خاصة في حرب 2014، التي كانت ذروة المواجهات البرية بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال، وانعكست على الوعي الإسرائيلي سلباً، كما يؤكد المحللون.
العجز في أداء القوات البرية رغم المناورات المتعددة التي نفذها جيش الاحتلال في السنوات الأخيرة، والتطور المستمر والعمل الجاد الذي تخوضه المقاومة على وحداتها، وانتشار آلاف الصواريخ في أيدي أعداء "إسرائيل" الذي يحيطون بها، جعل من مهمات سلاح الطيران في حسم المعركة صعباً، وفكرة فتح حرب متعددة الجبهات إنذاراً بكارثة داخل دولة الاحتلال.
حطمت معركة "سيف القدس" نظريات رئيس أركان جيش الاحتلال، أفيف كوخافي، حول الجيش "المتطور، والفتاك، والناجع"، بعد أن أفشلت كل خططه وأهمها استهداف "مترو أنفاق حماس"، كما يسميها، أو "المدينة الجهادية" بتعبير رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، وسجلت المعركة تفوقاً استخباراتياً للمقاومة بعد كشفها خطة استدراج قوات النخبة للأنفاق عبر الخداع بوجود مخطط لاجتياح بري.
كوخافي "المنتفخ" بأساطير حول إبداعه وخروجه على المألوف، سقط في أول مواجهة صغيرة مع المقاومة، وعادت أزمة الجيش إلى صدارة الحديث الإعلامي والسياسي في دولة الاحتلال، وباتت أصوات جنرالات مثل يتسحاك بريك الذي وصف نفسه "بالنبي الغاضب" أكثر ارتفاعاً، بعد سنوات من مهاجمة آرائه حول عدم جاهزية الجيش للحرب المقبلة، وأن كارثة محققة ستلحق بدولة الاحتلال في حال فتحت عليها جبهات متعددة.
الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في تقدير نوايا المقاومة بعد التهديدات التي وجهتها بتنفيذ ضربة رداً على الاعتداءات في القدس، شكل ضربة لأهم ركائز العقيدة العسكرية الإسرائيلية وهي "الإنذار"، وكرس أزمة تحديد الأهداف التي واجهها جيش الاحتلال منذ حرب لبنان، وظهر عجزه بالاستهداف المكثف للأبراج والمنازل والبنية التحتية، بهدف تدفيع المجتمع ثمن المقاومة.
العجز الإسرائيلي في مقابل التقدم العسكري على جبهة المقاومة الذي تجلى في معركة "سيف القدس"، أعاد إلى التصورات الذهنية لسكان المنطقة عن حرب متعددة الجبهات، يزيد من خطورتها على الاحتلال انخراط فلسطيني الداخل المحتل فيها، وهو ما يحاول الاحتلال قتله عن طريق حملات الاعتقال المكثفة، لكن ما يؤكده محللون وخبراء إسرائيليون أن هبات أخرى قريباً ستندلع في الداخل، وفكرة "التعايش" ربما دفنت إلى الأبد.
بات من المؤكد أن قدرة الاحتلال على حسم الحرب في جبهات متعددة، باتت من الماضي، وأن الحرب المقبلة التي حاول تأجيلها بضربات استباقية في سياق ما سماه "المعركة بين الحروب"، لن تكون كسابقاتها، خاصة مع مبادرة المقاومة للهجوم وتوطينها صناعة الصواريخ وأدوات عسكرية هامة في غزة، ما يعني تغلبها على سياسات الحصار التي تعرضت لها من جانب الاحتلال بالتعاون مع أنظمة في المنطقة.