"العارف تضيء لهُ أنوار العلم فيبصر بِهِ عجائب الغيب"، هكذا يقول بعض الصوفية.
بهذا العارف؛ نبصر نحن جانبا من عجائب الغيب، فما ينكشف له؛ ينكشف به لنا، لكنّ الكشف متفاوت في التجلّي والوضوح، بيننا وبينه، فهو يعاين بروحه؛ فما كان كسبا منه صار طبعا له وسجية، أمّا نحن، ما لم ندخل تجربته، فمستهلكون في الكسب أبدا، نتفقد طول الوقت بصيرة الروح، ثمّ نسندها بأدوات العقل والحسّ، لتتمكن من رؤية بعض من العجائب التي انكشفت للعارف.
عارفنا هذا خلوته نفقه، وأيّامه التي يقضيها في باطن الأرض، وكأنّه ملتصق بسقف العرش، ورياضاته حركته في قلب النفق، ذهابا وإيابا، تترسا وهجوما، خفيفا ومُحمّلا، وهو إذ ذاك على هذا النحو، فذكره بقلبه طول وقته، وهذا أعلى ما يكونه المرء من الذكر، وهو إذ ذاك "كائن بائن"، كما يقول بعض الصوفيّة، منغمس في الهمّ العامّ، ملتحم مع رفقة العارفين، لكنه بائن من ذلك كلّه، ومن نفسه، إذ يحمل في قلبه الذكر، وعلى كتفه عدته وعتاده. وبهذا فاضت عجائب الغيب من قلبه فتجلّت على يديه.
يبدأ العارف بأن يخرج من نفسه ويفارقها، "حتى يكون كالأرض يطؤها البرّ والفاجر، وكالسحاب يُظلّ كلّ شيء، وكالمطر يسقي ما يحبّ وما لا يحبّ". وهذا هو الكائن البائن بعينه، يعيش لغيره، وهو بائن عن هذا الغير، بقدر ما يبدو مستهلكا في خدمة هذا الغير، وذلك لأنّه في الحقيقة "مستهلك في بحار التحقيق"، فإذا اجتمعت في هذا العارف علوم الدنيا وعلوم التحقيق الأخروي، فاجتمعت فيه قوّة العقل والحسّ والقلب، فاضت العجائب من نفقه على العالم.
الدكتور جمال الزبدة، أستاذ العلوم الهندسية والميكانيكا في كلية الهندسة بالجامعة الإسلامية بغزة، خريج الجامعات الأمريكية، استشهد برفقة نجله أسامة، مع عدد من قيادات القسّام، في قلب نفق في مطلع الحرب الأخيرة على غزّة. أبحاثه العلميّة حول محرّكات الطائرات، وبعد استشهاده تبيّن أنّه مسؤول دائرة التصنيع العسكري في كتائب القسام، وتطوير برنامج الصواريخ والطائرات المسيّرة.
تبدو المعرفة بهذا الرجل في ذروة تجلّياتها، معرفة ممكنات المادة، ومعرفة حقائق الغيب، معرفة عالم الشهادة ومعرفة عالم الغيب، فخرج من نفسه وحظوظها، لمّا خرج من الولايات المتحدة وكبريات جامعاتها ليعود إلى نفق في غزّة، ومعه ابنه، في انعكاس للمعرفة الغيبيّة التي رأى فيها الأب الخير لابنه، وفي التحام معرفين من طبقتين، طبقة اجتماع أنواع المعرفة في الأب، العقلية والحسية والقلبية، وطبقة اجتماع العارفين، فهم كائنون معا، يجمعون علومهم ومعارفهم وتدبيرهم إلى بعضهم، بائنون بقلوبهم مع الله تعالى. فالعارف الحقّ، يستثمر في معرفة بقيّة العارفين، إنّها الصدقية التي قد ترقى إلى الصديقية، والجدّية التي تنبعث من الإيمان بالفكرة والقضيّة والمشروع.
ما حدث في غزّة خارق للعادة، ومجمع كرامات لمجمع أولياء، وإلا فهذا الشريط الساحليّ الضيق المكشوف طبوغرافيّا، والمطبوع في حسّ أجهزة الاحتلال الاستخباراتية، والمحاصر من كلّ جهة، كيف أمكن له أن يتجاوز ذلك كلّه، فيراكم المعرفة والقوّة والخبرة، ويغطّي على ذلك كلّه، وكأنه في حرز مغلق، ثم يتمكن من استخدام ذلك كلّه وتوظيفه، إلى الدرجة التي يفرض فيها على الاحتلال حظر الطيران، ويخضع أكثر جمهوره في الملاجئ، ثم يتمكن من الاستمرار والمواصلة، ويكشف في الأثناء عن قفزات تقنية في حدود إمكاناته المادية، كالطائرات والغواصات المسيّرة؟ ولو طالت الحرب، لتجلّى لنا من فيوض التحام المعرفة فوق ذلك وأكثر!
كنتُ أعبّر عن ذلك، بالقول إنّه الإيمان بالمشروع، ثمّ الجدّية والصدقية والمثابرة. فالمشروع هنا، هو مواجهة الاحتلال، وهو بذاك فوق الاستعراض، وفوق التوظيف السياسي الفئويّ الضيق. لكن ما أمكن ذلك إلا بخروج آلاف الأفراد من أنفسهم، ثم اجتماعهم مع غيرهم، ليكونوا كلّهم لغيرهم، وهذه رتبة في اليقين، والله أعلم بقلوب العباد، فكم من خفيّ لا يعلمه إلا الله ونفقه. فما الذي حمله على ذلك، في عالم مفتون، يرتدّ فيه الناس عن القيم العليا، وقيم الخدمة العامّة، إلى حضيض الفردانيّة المحضة؟
كتبتُ قبل سنوات مقالة بعنوان "المثقف والمعرفة خارج النمط التدويني.. معرفة المقاوم كمثال"، وهذه هي المعرفة التي لا يمكن تدوينها، ولا نقلها، وإنّما تتلمسها عيون البصائر،التي تبذل وسعها لتخيّلهم في أنفاقهم، مع كمونهم الطويل، وحملهم الثقيل، وجهدهم الكبير، ومع ذلك كلّه وفوقه، ذكرهم الكثير.
كيف يمكن للحرف المرسوم أن يستوعب الكيفية، التي خرج بها إنسان من نفسه، فصار لغيره، وهو بائن عن ذلك الغير؟ وما هي الطريق المسلوكة وصولاً إلى هذه الغاية؟ إنّها المعرفة التي تعجز كلّ لغة، وتتضاءل أمامها الحروف والرسوم، فكيف إذا اجتمع إلى هذه المعرفة، معرفة تطوير معطيات المادة بأدوات العقل والحسّ في أنوار القلب؟ حينها سينكشف للناس من العجائب ما ينكشف، كما انكشف في هذه الحرب.
قال أحد العارفين:
- بلا نطق هُوَ النطق إنه .. لَك النطق لفظا أَوْ يبين عَنِ النطق
تراءيت كي أخفى وَقَدْ كنت خافيا .. وألمعت لي برقا فأنطقت بالبرق