مشهدية القدس كانت وما زالت حاضرة بقوة في هذه الأيام، وذلك عائد لأكثر من اعتبار أحدها مكانتها الدينية والسياسية، وأضحت حاضرة في مشهد النقاش المحلي والاقليمي والدولي وعلى كل المستويات الاعلامية منها والسياسية.
هذا الحضور ما كان له أن يكون بهذه القوة لولا وجود الحوامل البشرية التي أخذت على عاتقها صناعة المشهد واضاءته، بأعلى قدر من الثبات والتميز، ومتاح لكل متناول لشأن الحالة أن يناقشها من الزاوية التي يراها مناسبة، فاتساع الحالة يوفر الأرضية لذلك .
البعض قد يتناولها بالمعنى السياسي، وآخر إعلامياً وثالث من الزاوية الدينية والوطنية ويمكن الدمج ما بين أكثر من عنصر من ذلك، فكل النقاش يستند إلى ما يمكن قوله من فعل تجاوز حد المألوف وعكس الطبيعة الاصيلة لشعب استطاع أن يكون عنواناً لفعل مقاوم تتجاوز قامته قياداته السياسية التي وصلت إلى مرحلة من الموات يأخذ قضيتنا الى متاهات من الممارسات التي تضاعف العبئ الملقى على كاهل الطبقات الشعبية صاحبة الفعل في الميدان ووقود كل مواجه وشرط الانتصار .
من جهتى أذهب في تناولي لهذه المشهدية من زاوية بسيطة وهي تلك الابتسامات التي تعلو شفاه غالب المعتقلين في الأحداث، رغم العنف الممارس من شرطة الاحتلال وجنوده والتعمد بالحاق الاذى الجسدي بكل المعتقلين إلا ان إبتساماتهم الحاضرة تعلو الشفاه وتعيد تشكيل المشهد بمعنى مختلف عن إرادة الاحتلال وعنفه، فتكون الرسالة في عمقها أكثر حضوراً من قوة مدججة بمعنى الموت والترهيب.
الابتسامات التي يرسمها شبان القدس المعتقلين على شفاههم ليس تصنعاً او استعراضأً امام مصور بل هي حقيقة نابعة من الموقف وبوصلة تؤشر بعفويتها الى قادم الايام ومآلاته الحتمية، فالابتسامات تعكس الصورة المتكونة في رأس الشبان، فهم يرسمون الصورة لمستقبلهم ويرون وهم مكبلون كل الامل المنتشر في الازقة والمحمول في افئدة الاطفال والشيوخ وكل الواقفين في عرض الشوارع وشرفات المنازل والتي ما خضعت لسطوة الجلاد على مدى عقود، بل تعيد التأكيد كل مرة وعلى تقارب متواتر في السنوات السبع الاخيرة ان مصير القدس قد حسم لصالح اهلها وليس لغزاة عابرين.
ومن زاوية أخرى إنهم يرون مقدار الخوف الساكن قلوب الجنود المدججين بالسلاح ويلامسون ارتعاشات أناملهم ، فيدركون أن جبروت الغزاة ما هو إلا أوهام سكنت في رؤوس الخانعين المراهنين على وهم الحلول والتعايش، مع عدو لا يجيد إلا القمع والاذلال للعزل من الناس البسطاء الأعزاء، وهل يخضع عزيز لسطوة مغتصب عابر.
الابتسامات هي رسالة سخرية من كل الطغاة، واستخفاف بكل وهم الجبروت الذي بنوه في أرواح الزعماء المستبدين التابعين لاوامر السيد الكبير المشغل للاحتلال بريطانيا قديما وامريكا اليوم، وفيها ايضاً فيضاً من محبة وعزة، وروح انتماء واصالة عريقة ممتدة عميقا ًتؤكد بعد كل مواجهة ان العابرين لن يكون بمقدورهم كسر ارادة الموقنين بنصرهم، فكما قيل سالفا على لسان احد علماء النفس الذي كان قابعاً في معسكرات النازية ابان الحرب العالمية الثانية" يمكن ان تسلب من الانسان كل شيئ الا آخر الحريات البشرية" وهنا قصد ان لا احد يستطيع ان يحدد رد الفعل اتجاه الظروف التي قد نوضع فيها الا نحن فلا قوة الجلاد ولا بطشة قادرة ان تكسر ارادة طفل قرر ان يسخر منهم .
حينما ننظر الى تلك الابتسامات العذبة الممزوجة بالقوة والعنفوان سنرى من خلالها الافق البعيد القريب من الامل، والتغيير القادم من رحم المعاناة والاضطهاد، وسنرى نصراً حاضراً لا محال محمولاً في قلوبهم وعلى اطراف الايادي التي ترفع عالية في وجه الطغاة، وترسم وجهة العمل المأخوذة درساً عميقاً يخطه المقدسيون ومن خلفهم كل الشرفاء من ابناء الشعب المكافح في كل مواجهة تخاض على البوابات والازقة، فهناك في القدس ومع كل فجر يكتب الفلسطينيون
خلاصة درسهم في النضال مكثفاً في ان الكفاح وحتى يكون مجدياً على الارادة أن تكون حاضرة، والثبات عنوان فعل واستمرار، وأن الفقراء والبسطاء قادرون على تحطيم احلام الغزاة إن وثقت وآمنت بهم قيادتهم وراهنت على روح عطائهم وحسمت الخيار معهم بلا رهان على أحبال الوهم المعلقة في العواصم .
في القدس ابتسامات تضيء لتبدد كل ظلام وترسم الدرب امام اجيال باتت تحترف العزة واليقين، وتعرف أن الدرب وإن طال فإن خواتمه لن تكون متوجة إلا بالنصر والفرح ، وترسم الأمل جسراً تعبره الاجيال لحريتها وتؤكد بأن البلاد لم تكن يوما ملكاً لغزاة عابرين حتى وإن مكثوا طويلا، وأن الحرية حاضرة من بين ـنامل الأطفال الواقفين على أرصفة الشوارع، بلا خوف من جنود.
ابتسامات القدس قناديل حياة، وضياءاً لسماء، وموسيقى تلامس الارواح الباحثة عن حريتها وإيمان جيل بنصره، وكرامة شعب لا يعرف الانكسار فعلى شفاة ابناء القدس ترى فلسطين حريتها.