في عالمٍ يتشكل الفاعلون السياسيون فيه من الدول كحجر زاوية، فإن المقاومة تبقى فاعلاً سياسياً دون الدولة، والاحتلال يسعى بجدّ لمنعها من ترجمة إنجازاتها الميدانية إلى مكاسب سياسية انطلاقاً من هذه المفارقة؛ فيلجئها عبر الوسطاء المرتهنين للإرادة الأمريكية إلى حصار أطروحتها السياسية؛ ويضيف تمثيل قيادة السلطة الفلسطينية للمقاومة طبقة أشد نكاية تضمن عدم عرض المطالب الفلسطينية للمقاومة ابتداء، فيضمن بذلك بدء التفاوض من النقطة التي يفترض أن ينتهي عندها.
يفرض الميدان الشعبي منذ بداية رمضان في القدس، والعسكري والشعبي منذ 28 رمضان وحتى الآن تغييراً تلو التغيير في ميزان القوى، ويفرض على الأرض معادلاتٍ جديدة، وهذا بحد ذاته المكسب الأهم والأساس في مسار صراعٍ مستمر، وفرض نتائج سياسية مخالفة للميدان قد يمرّ مؤقتاً لكنه لا يدوم مع الزمن، وهذا مفتاح الرهان المركزي للمقاوم على طاولة المفاوضات، فهي طاولة تعكس موازين القوى التي كانت قبل المواجهة، والتحدي أمامه أن يشق طريق الموقف ليقلب تركيبة الطاولة مرتكزاً لما سلّحه به الميدان من مستجدات.
أولاً: دور الوسطاء:
يأتي الصهاينة غالباً في كل تسويات الحروب من بوابة التمثيل الأمريكي، ما يجعل الوسطاء العرب وغير العرب مرتهنين في غالبيتهم للإرادة الأمريكية في التفاوض، فيجد المقاوم نفسه منفرداً على الطاولة، ويمسي دور الوسطاء عملياً استيعابَ المقاوم بما يقربه من موقف عدوه، ومحاولةً لجرّه إلى نتيجة لا تشكل انعكاساً أميناً للميدان، وكثير من وعود الدعم المالي والمساهمة في الإعمار تأتي عملياً من باب تحسين قدرة الوسيط على الاحتواء والتأثير.
ثانياً: دور السلطة:
أثبتت قيادة السلطة بالتجارب الماضية أن دورها هو منع طرح مطالب المقاومة للتفاوض؛ وهو دور إجهاضي مبكر، يضمن عملياً إخراس صوت المقاوم في المفاوضات، وطرح أفكار لا تمثل سقفه كنقطة بداية، يجر للتنازل عنها شيئاً فشيئاً، وهذه الإضافة المدمرة إلى الطاولة ينبغي تجاوزها اليوم بكل الأحوال.
لقد أكملت معركة القدس تقويض ما تبقى من رصيد المشروعية السياسية للسلطة التي وضعت القدس خارج الاهتمام السياسي الفلسطيني فانتقلت المبادرة للشارع والمرابطين وحركات المقاومة، وأدانت السلطة انخراط المقاومة في هذه المعركة ابتداء؛ وأمام هذا الوضع فإنها حريصة اليوم على تعويم نفسها واستعادة حضورها انطلاقاً من طاولة التفاوض على شروط الهدنة.
ثالثاً: هل من مخرج؟
لا يمكن تغيير بنية النظام الدولي، ولا بنية المصالح وارتهان دول ما بعد الاستعمار في المنطقة لإرادة المركز الغربي، لكن ما يمكن فعله هو رسم خطوط صمود تمنع تلك البنية من خلخلة الموقف، وتمنعها من التسبب بنتائج سياسية تخالف الميدان ولو مؤقتاً، وهناك ثلاثة خطوط عامة يمكن أن ترسم ملامح هذا الصمود السياسي:
أولاً: بناء تركيبة المفاوض على الوجود الفعلي المقاوم: تخوض المقاومة معركتها اليوم تحت لواء غرفة عملياتٍ مشتركة تنسق عملها على مختلف الجبهات، ولا بد للفعل السياسي أن يبني على المعادلة ذاتها، فيتشكل تمثيل المقاومة السياسي من كل من له وجود في غرفة العمليات المشتركة، فهؤلاء من بيدهم قرار وقف النار، وكل من لا يشارك في قرار النار لا يشارك في قرار السلم، وهذه المعادلة المنطقية البسيطة كفيلة بضمان حضور الكثير من قوة الميدان وعناده في التفاوض، ومنع الاستفراد الدولي بأي طرفٍ تحت عباءة الوسطاء.
ثانياً: تصحيح التكييف القانوني للمقاومة في غزة: إن التكييف القانوني الدولي للمقاومة غزة من الناحية الواقعية هو أنها "حركة تحرر وطني مسلحة"، وهذا التصنيف يعني الاعتراف بحركة التحرر كسلطة شرعية في الإقليم المحرر نتيجة سيطرتها الفعلية عليه مرتكزة لإرادة شعبها، واعتبار سلاحها شرعياً كونه نجح في تحرير جغرافيا، وأنها تمتلك مشروعية دمٍ وصمود من شعبها تزيد في قيمتها عشرات المرات عن مشروعية الكتابة بالحبر على بطاقات الاقتراع، وبعض القانونيين ينظرون إليه باعتباره "دولة تحت التأسيس" باعتبار توفر العناصر الثلاث للدولة: الأرض والشعب والسلطة؛ وإن كانت غير ناجزة، وقد كان هذا التكييف القانوني للثورة الجزائرية هو ما أسس قانونياً لتعامل الدول معها مباشرة.
لقد أسهمت ظروف سيطرة المقاومة على غزة في طمس هذا المفهوم؛ إذ أن انتخابات ٢٠٠٦ جاءت بعد شهور بسيطة من انسحاب الصهاينة من بر غزة، وسيطرة المقاومة الفعلية عليه تم في صيف ٢٠٠٧ انطلاقاً من انقسام سلطوي داخل سلطة الحكم الذاتي التي أنشأها أوسلو، فبقي التعريف القانوني للمقاومة مرتبطاً بأوسلو شكلاً رغم أنه لا يمت له بأي صلةٍ مضموناً، وتقع على القيادة السياسية للمقاومة مسؤولية تصحيح هذا الخلل.
ثالثاً: التفاوض من موضع الثقة: وهذا تنبني عليه نتيجتان، عدم الاستعجال وعدم اقتراح الحلول. لسنا الطرف الوحيد المتضرر اليوم، والاحتلال مأزوم بدرجة أكبر بكثير نظراً للحجم والتحالفات الدولية وتحدي الهيبة المبعثرة والجبهة الداخلية الآخذة بالتمزق وانطلاقه للحرب من نقطة لا تمثل إجماعاً؛ فلماذا نطرح نحن الحلول؟ الأجدى أن ننتظر أزمة المحتل لتتفاعل، ولتضطره ليطرح هو الحلول، والتجربة تقول إنه حين يفعل ذلك فإنه يبحث حقاً عن تسوية تنزع فتيل الأزمة، ولننظر لتراجعه غير المشروط في هبة باب الأسباط وتفكيك البوابات في 2017، وابتلاعه الهزيمة وتبديد التقسيم المكاني في الأقصى في 2019 وتراجعه أمام شباب القدس في ساحة باب العامود مطلع رمضان... لو كان لهؤلاء الشباب وفد مفاوض، هل كنا سنصل لهذه النتائج؟
قد يعني هذا إطالة أمد الحرب قليلاً، أو إعادة تصعيدها حتى يصل المحتل لنقطة يصبح عندها مجبراً للسعي للتهدئة، لكنه عند هذه النقطة سيضطر صاغراً للاعتراف بوقائع الميدان، وعند هذه النقطة فقط يمكن أن نحصد نتيجة سياسية ناضجة.