في كل جولة مواجهات مسلحة من غزّة يثير بعض المثقفين جدالات بعضها ينطوي على اتهام، أو عدم ثقة في حالة المقاومة في غزة، ويطرحون نظريات حول فعالية المقاومة الشعبية، تستحق بعض التصويب، لوضع الأمور في نصابها الحقيقي.
من الملاحظات على هذه السجالات:
1. الدفاع عن المقاومة، والانحياز لها، لا يعني تقديس أشكالها، ثمة مصادرة في المسارعة بهذا الاتهام، وتصوّر أن جمهور المقاومة لا يقبل نقدها، ولكن ثمة فرق بين نقدها من على قاعدتها وأرضيتها، لتطويرها وتحسين نتائجها والمساهمة فيها بالرأي والفكر، وبين نقدها من على قاعدة أخرى لا تؤمن بها.
2. المقاومة في غزّة أثبتت جديتها وصدقيتها في العديد من المحطات، وكل من أراد تناولها بالنقاش ينبغي أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار. ليست القضية عاطفية، ولا جمودًا فكريًا، وإنما هو أولاً إيمان بشعبنا وقدراته، وثانيًا ما أكدته الحوادث.
3. ثمّة جمود بالقياس الدائم والمزمن على تجارب الثورة الفلسطينية من أواخر ستينيات القرن الماضي وحتى مطلع ثمانينياته، وكأن قدر أي مـ.قـ.اومـ.ة مسلحة فلسطينية أن تكون نسخة عن أخطاء تلك التجربة. وهذا هو الجمود الحقيقي الذي يتوقف فيه الفكر عند لحظة معينة ويأبى أن يغادرها.
4. في قضية المقاومة الشعبية، يجري استحضار نموذج الانتفاضة الأولى، وهذا الاستحضار لا يراعي التغيرات الهائلة التي فرضها وجود السلطة الفلسطينية. إن مجرد وجودها أفقد الفلسطينيين الكثير من أدوات العصيان المدني، وخلق حاجزًا محليًّا بين الجماهير والاحتلال، هذا فضلاً عن عمليات الهندسة الاجتماعية وتغيير الأولويات بوجودها. من كان يدعو لمقاومة شعبية عليه أن يتحلّى بفكر خلاق، لتجاوز هذه المعضلة، أو على الأقل وضعها في حسبانه، حتى لا يبقى منفصلاً عن الواقع.
5. القول إنّ المقاومة الشعبية تمتص بطش الاحتلال بعكس المسلحة، تعوزه الدقة، ولا أقول إنّه خاطئ بالمطلق، ولكنه ينحشر في سرداب اللحظة الراهنة، ولا يقرأ محطات البطش الإسرائيلي ولا ذرائعه جيدًا، فالاحتلال في الانتفاضة الثانية وقبل تحوّلها إلى مسلحة كان يحصد المدنيين العزّل على الحواجز يوميًّا. إنّ ارتفاع منسوب البطش الإسرائيلي سببه وجود إدارة فلسطينية محلية، ينطلق من أراضيها عمل مـ.قـ.اومـ. سواء كان مسلحًا أم شعبيًّا، إذ يصوّر الاحتلال الأمر وكأنه اعتداء مبرمج من سلطة أخرى.
6. ما نحتاجه نوع من التكامل يناسب جغرافيات الفلسطينيين وظروفهم المتباينة وحالة الفصل التي فرضها الاحتلال، ثم فرضتها السياسات المحلية المختلفة. وهو أمر يستدعي لا رفض المقاومة المسلحة، بل يستدعي التفكير في كيفية تعزيزها باستنهاض بقية الساحات، وهو ما يتطلب نقدًا مركزًا لحالة الشلل النضالي التي سببها وجود سلطة محلية بسياسات وظيفية.
7. كسر المعادلات الإسرائيلية، ووجود ذخر إستراتيجي، مكسب في حد ذاته من وجود مـ.قـ.اومـ.ة مسلحة، وهذه المـ.قـ.اومـ.ة مثلت الرافعة المعنوية الوحيدة للفلسطينيين من بعد الانقسام وسياسات التدجين والهندسة الاجتماعية. فلا ينبغي أن نفقد ذاكرتنا ونحن ننقاش حدثًا راهنًا، وكأن التاريخ بدأ من عنده وانتهى عنده.
8. هذا الذخر الاستراتيجي كان سيكون أكثر فاعلية، لو لم تفرض عليه ظروف الحصار الداخلي والخارجي. وهو ما ينبغي أن يحفز الخطاب ضد من يحاصر قاعدة المـ.قـ.اومـ.ة في غزة. لا ضد هذه القاعدة نفسها.
9. الاختلاف في تقدير الموقف السياسي، أو حتى حول أدوات المقاومة نفسها مفهوم ومقبول، لكن دون أن يتحوّل إلى لوم الضحية، وكأن جذر المشكلة ليس في الاحتلال.
10. وبقدر ما أن هذا الاختلاف مفهوم في السعة، فهو غير مفهوم وقت الضيق واشتعال المعركة.