سألته زوجته: لو رجع فيك الزمن.. بتغير اشي من اللي مضى؟
أجابها بصرامة وثبات، وهو على كرسيه المتحرك: أبداً.
هي حياة رجل شجاع، زاخرة بالتفاصيل من عِزّة وألم، لا يزال يدفع ثمنها الأسير منصور موقدي، بعد 19 عاماً من الأسر في مقبرة للأحياء، تدعى مستشفى الرملة. حياة تختزلها آثار أربع رصاصات اخترقت حوضه، ورِجليه، ومزّقت معدته، ومثانته، وخامسة استقرّت في عموده الفقري حتى اللحظة، فأضحى مقعداً على كرسي مدولب بشلل نصفي، ومعدة بلاستيكية، وكيسيّ براز وبول يتدليان منه، وسط إهمال طبي متعمد لإدارة مصلحة السجون. بالرغم من تردّي وضعه الصحي منذ اعتقاله؛ يرفض منصور تغيير واقعه بـالتدحرج خلفاً، والرجوع بالزمن بـِ (لو) البائسة، ويظل صابراً ورافضاً، يواجه احتمالات الغياب الأبدي يومياً، فداءً لفلسطين.
أجاب منصور زوجته (نهلة)، وكأنه يقتبس ما قاله مُفيد الوحش على كرسيه المتحرك لزوجته لبيبة الشّقرق في رواية حنّا مينه: "سأبقى شجاعًا، أنظر في عينيّ الموت ولا أخاف."
اعتُقِلَ العسكريّ منصور موقدي من قرية (الزاوية) قضاء سلفيت في اشتباك مُسلّح مع الاحتلال في 3-7-2002، بعد عام ونصف من المطاردة الساخنة. في بداية الأمر، ظنّت عائلته بأنه استشهد، بعد أن ذاع خبر استشهاد رفاقه من الأمن الوطني، وبركة الدماء الذي خلّفها اشتباك حامي الوطيس على تراب قرية (سنيريا) في قلقيلية. ظلّت نسوة سلفيت تتردد الى منزل العائلة لعزاء ومواساة أسرته، وهن مكتسيات بالسواد حداداً على نبأ استشهاد محتمل غير مؤكد بعد، وظل منصور مشروع شهيد قرابة ثلاثة شهور، حتى تأكد خبر إصابته، ومكوثه في "مستشفى" الرملة، في حالة صعبة للغاية.
لم تشفع حالة موقدي الصحية له، بل أنزل الاحتلال عليه حكماً مدى الحياة، قُلّص فيما بعد بـ 30 عاماً. تبدّلت حال العائلة بعد اعتقاله، فتوفي أباه بعد عامين جرّاء حادث سير أودى بحياته، وهو في أوائل الخمسينيات من عمره. لم يتجرأ أحد أن يبوح له بالحقيقة، فجرّعوه الخبر مغلّفاً ببعض منها على مراحل عدة. أما والدته، فقد استنكفت عن زيارته بعدما فتك بها الزهايمر، ولم تعد تدرك أن قطعة منها تقبع في سجون الاحتلال. لم يكن سهلا على منصور ما آلت إليه العائلة، وما زال يؤمن يقيناً بأن أمه ستعرفه حال الإفراج عنه، عندما يرتمي جاثياً على ركبتيها، وتضمه بين أحضانها.
ينتاب منصور حزن من نوع آخر، حزن أب منعه الاحتلال من مرافقة ابنتيه (وعد) و(محفوظة) في عرسهما، وحضور "طلعة العروس"، واحتضان ابنه البِكر (رعد) الذي كان في السادسة من عمره عند اعتقاله، وأضحى اليوم ضابطاً في جهاز أمني، تماماً مثله، يحذو حذوه أخاه الأصغر (محمد)، وكلاهما ممنوع من الزيارة.
يصرّح (رعد): "احتجت لأبي كثيرا في نجاحاتي وسقطاتي. كل مرحلة كانت ستبدو مختلفة لو كان بجانبي. تمنيته معي عندما تخرجت من الثانوية العامة، ورغبت مشاركته فرحتي واحتضانه بشدة."
يذكر (رعد) بحسرة النكسة التي حلّت على عائلته قبل عشر سنوات، عندما أُبلغت الأسرة باسم الأسير منصور مدرجاً ضمن قائمة صفقة وفاء الأحرار، وهمّ مع إخوته بتزيين الدار: "أتذكر ذلك اليوم جيدا، لقد اتشح منزلنا بالأضواء والزينة استقبالاً أبي.. انتظرناه طويلاً، لكنّه لم يخرج أبداً." وأكمل: "الاحتلال حقود على والدي، حتى وهو على كرسيّ متحرك، وبوضع صحي حرج. تغيظهم جدا روحه الحرة." يخاف الاحتلال إرادة منصور الصلبة، ولم ينسَ إضرابه عن الطعام مدة 18 يوماً قبل 6 سنوات، فيصرّ على إبقائه أسيراً، محاولاً تعكير حياته وحياة أسرته، وتثبيط إرادته بانتزاع الحرية يوما.
واصل (رعد) توضيح معاناة والده، قائلا: "يعاني أبي من تهتك في جهازه الهضمي، فـَ 70% من معدته بلاستيك، ورِجلَيْه مثبتَتيْن ببلاتين. الى جانب كرسيه المتحرك، يتكبّد والدي عناء ملازمته لكيسيّ البول والبراز، جرّاء مثانة مستأصلة بفعل رصاص الاحتلال يوم الاشتباك." إضافة الى ذلك، ينتظر موقدي إجراء عمليات جراحية، لكن سياسة الإهمال الطبي تبقيه في حالة انتظار دائم. فهو بحاجة الى زراعة أسنان، إضافة الى زراعة شبكة ببطنه المتكوّر، وإجراء فحوصات لمعرفة نوع الورم الذي يعتلي الجانب الأيمن من رقبته."
يقبع منصور مع 15 أسير آخر، معظمهم ابتاع كفنه على حسابه الخاص، تحسباً لاستشهاده في أي لحظة في سجن الرملة، والذي يحاول الاحتلال أنسنته وتوصيفه بأنها مشفى، لكنه بعيد كل البعد عن ذلك، فهو مسلخ يزيد من معاناة الأسرى المرضى فحسب. أقصى ما يقدمه لتسكين أوجاع المصابين بالسرطانات والأمراض المزمنة حبة (أكامول) لا تقدم ولا تأخر في العلاج.
يصحى منصور كل يوم، بذات الأمل واليقين، ينظر في عينيّ الاحتلال، مواجها غير خائف، ومواصلاً دربه بذات الحزم والثبات الذي أجاب به زوجته، عندما سألته (لو رجع الزمن لورا.. بتغير اشي؟). بإيجاز شديد، هذه حياة رجل شجاع، حياة الأسير منصور موقدي.