كان مبدأ الذهاب إلى الانتخابات بعد الاتفاق على إنهاء الانقسام منطلق كل الحوارات الفلسطينية حتى عام 2018، إذ أنه في جلسات الحوار تلك تم طرح فكرة جعل الانتخابات مدخلًا لإنهاء الانقسام وليس تتويجًا لإنهائه، هذه الفكرة تحولت إلى اتفاق برعاية دولية عقب حوارات إسطنبول عام 2020م.
مبكرًا كان واضحًا جدًا أن اعتماد مبدأ الانتخابات مدخل لإنهاء الانقسام، كان يحتم لإنجاح هذا المسار، جعل كل منظومة الانتخابات منظومة توافقية لترتيب وشرعنة البيت الفلسطيني، ولو سأل أحدهم عن أفضل وصفة لتدمير مسار إنهاء الانقسام لكانت انتخابات تنافسية والتراجع عن اتفاقات الشراكة ما بعد الانتخابات.
بالفعل ولإنجاح المسار حاول المتحاورون التوصل إلى صيغ توافقية تشاركية ضمن المنظومة الانتخابية وما بعدها، وتوافقوا على الآتي:
- صيغة لوضع القدس في الانتخابات وعدم تحويلها لصاعق بيد الاحتلال يفجر بها الانتخابات متى شاء.
- محاولة التوافق على قائمة مشتركة تخوض الانتخابات وتفوز بشبه التزكية، وهو ما لم يتم لحسابات خاصة باليسار الفلسطيني والتنافس الداخلي في حركة فتح.
- بعد فشل التوافق على القائمة المشتركة جرى التوافق على الشراكة وتشكيل حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات بغض النظر عن شكل نتائجها.
- نقاش التوجه إلى الاستحقاق الرئاسي بالتوافق.
- صيغة عملية لانتخابات المجلس الوطني.
الأهداف التي كانت مرجوة من إجراء الانتخابات:
أولًا: أهداف عامة:
- فرز قيادة جديدة وقوية وشرعية قادرة على النهوض بالمشروع الوطني للشعب الفلسطيني ومواجهة الاحتلال ومخططاته.
- فرز قيادة جديدة قادرة على النهوض بالأعباء الخدماتية للشعب الفلسطيني.
- الانسياق مع الشرعية الفلسطينية والشرعية الدولية بالتداول السلمي للسلطة من خلال العملية الديموقراطية.
- ضمان مشاركة الشعب وجيل الشباب خصوصًا -معظم الشباب يشاركون للمرة الأولى في الانتخابات- في صياغة المنظومة القيادية والتغيير بعد 15 عامًا على آخر انتخابات.
- زيادة اللحمة السياسية والجغرافية وإنهاء الانقسام.
ثانيًا: أهداف حركة فتح:
- تصليب مؤسساتها القيادية في مواجهة التدخلات الإقليمية والتطبيع ومشاريع الضم.
- البقاء في فلك الشرعية الدولية كقيادة منتخبة، وما يترتب على ذلك من نفوذ ودعم وتمويل.
- ترتيب البيت الفتحاوي والفلسطيني لمرحلة بعد رحيل الرئيس محمود عباس.
- تطويع حركة حماس على برنامج سياسي وطني قريب من برنامجها.
- الاستعداد لمفاوضات السلام المتوقع اطلاقها من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة.
ثالثًا: أهداف حركة حماس:
- التوصل مع حركة فتح لبرنامج وطني يحقق الحد الأدنى المعقول من برنامجها، وقادر على مواجهة الاحتلال ومشاريعه.
- الخروج من أزمة حصار قطاع غزة.
- إعادة فاعلية ونشاط الحركة في الضفة الغربية من خلال حد معقول من الحريات.
- دخول منظمة التحرير الفلسطينية من خلال إجراء انتخابات المجلس الوطني.
مفارقات الأهداف والواقع:
انطلق المسار ضمن مقاربات وموازنات دقيقة تضبطه الأهداف العامة وأهداف كل طرف، فعلى الصعيد العام بدأ المسار في إطار تشكيك شرائح واسعة من الشعب في إمكانية عقد الانتخابات واستصدار مرسومها وتغيير الواقع، حتى بلغ الشارع درجة التحمس والتشجع لها، وكان تسجيل 36 قائمة انتخابية والنسبة العالية في تسجيل سجل الناخبين مؤشرًا على الرغبة الجامحة بالمشاركة والتغيير.
أما على صعيد حركة حماس، فقد كان هناك إجماعًا كاملًا في قيادتها (اللجنة التنفيذية، ومجلس الشورى العام) على تبني مسار "الانتخابات مقدمة لإنهاء الانقسام"، وكان هناك تشكيك عند شرائح من كوادرها وعناصرها خاصةً في الضفة الغربية بسبب الواقع الأمني الخاص بالضفة، ثم حصل التغيير في الواقع، إذ انتهى التشكيك مع مرور الزمن وأصبحت الانتخابات تشكل أمل لكوادر وعناصر حماس في الضفة الغربية الملاحقة وقطاع غزة المحاصر.
أما على صعيد حركة فتح، فقد كان المشهد مختلفًا بعض الشيء، إذ مررت الحركة قرار إجراء الانتخابات بقرار من الرئيس وغالبية أعضاء لجنتها المركزية، وحصل التغيير الدراماتيكي في الواقع من خلال:
1. لم تنجح الحركة بالتوصل إلى صيغة مرضية لتشكيلة قائمتها الانتخابية، ما أدى إلى انشقاق تيار ناصر القدوة، وأجبر التهميش أيضًا مروان البرغوثي على الانشقاق.
2. لم يستطع مسؤول ملف المصالحة في الحركة، اللواء جبريل الرجوب، تمرير فكرة القائمة المشتركة -والتي كان من الممكن أن تعفي فتح من أزمة التزاحم على ترتيب القائمة- بالرغم من قطعه شوط كبير من النقاشات مع حركة حماس والفصائل.
3. التهديد الذي حمله رئيس الشاباك والمسؤول في المخابرات الأمريكية في اجتماع المقاطعة مع الرئيس عباس حول الانتخابات ومشاركة حركة حماس بها.
4. تقدم قوائم المنشقين "دحلان ومروان والقدوة" في معظم استطلاعات الرأي.
5. المس بصورة الحركة جماهيريًا بعد خروج صراع ترتيب القائمة وما صاحبه من تبادل للاتهامات والمشاهد المسلحة في الشارع للعلن.
هذا التغيير في الواقع دفع قيادة حركة فتح إلى إعادة ترتيب أهدافها وأولوياتها، ليتحول مسار الانتخابات من فرصة لتحقيق أهداف الحركة إلى احتمالية غير بسيطة لخسارة استحواذها على شرعية قيادة فتح الرسمية وعلى دورها في رسم المشهد السياسي الفلسطيني.
فتداعت بذلك جملة من الموازنات والأولويات والأهداف دفعت اللجنة المركزية للحركة للدفع باتجاه خيار إلغاء أو تأجيل الانتخابات، وكانت من ضمن هذه الموازنات:
1. الخشية من خروج فتح الرسمية كأقلية أمام المنشقين حال حصول انتخابات، مما قد ينقل مربع الشرعية الفلسطينية والشرعية الدولية إلى دائرة المنشقين.
2. تضرر المشهد الفتحاوي العام انتخابيًا لصالح حركة حماس.
3. تعقد مشهد الاستحقاق الرئاسي مع أخذ المنشقين لشرعية برلمانية في حال حصول انتخابات.
وبالمقابل كانت هناك موازنة أخرى عند دعاة الالتزام بموعد الانتخابات، وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس والذي رفض قرار المركزية بالتأجيل وأكد عزمه على إجراء الانتخابات في موعدها ضمن موازنة:
1. الخروج من فضيحة سياسية غير مبررة أمام الجمهور الفلسطيني والفصائل والدول الضامنة والمجتمع الدولي حال تأجيل إجراء الانتخابات.
2. الحيلولة دون تآكل الشرعية الدولية للسلطة خاصة عند أوروبا صاحبة التمويل والدعم لمؤسسات السلطة والتي اشترطت تنفيذ الاستحقاق الديموقراطي لمواصلة الدعم.
3. ترتيب المشهد القيادي الفتحاوي والفلسطيني لمرحلة ما بعد محمود عباس.
4. تقوية السلطة أمام الإقليم والإدارة الأمريكية والتي تتجهز لإطلاق مفاوضات سلام جديدة.
الخيارات بعد إعلان تأجيل أو إلغاء الانتخابات:
الخيار الأول:
الرفض والتوجه للمواجهة الشاملة، وذلك من خلال تشكيل تكتل من القوائم الانتخابية يتفق على تجاوز حركة فتح، ويكون من خلال:
- العصيان المدني الشامل في الضفة الغربية.
- حملة دولية ضد فتح والسلطة لسلبها الشرعية واعتبارها سلطة انقلابية.
- التوافق على جسم قيادي للشعب الفلسطيني يتجاوز فتح والسلطة، يتكون من حماس والجهاد واليسار والمنشقين عن فتح وباقي الكتل الانتخابية من المستقلين وغيرهم، والعمل على شرعنته وطنيًا ودوليًا.
الخيار الثاني:
الرفض دون المواجهة، والموافقة على استمرار الحوارات مع حركة فتح والسلطة شريطة تحقيق جملة من المصالح والأهداف المبتغاة من مسار الانتخابات المعطل، وأهمها:
- التوافق على جسم قيادي موحد لقيادة الشعب الفلسطيني على برنامج وثيقة الوفاق الوطني، يكون بديل مؤقت عن منظمة التحرير حتى يتم ترميمها.
- إعادة شرعية المجلس التشريعي الذي تم حله بمرسوم رئاسي.
- ضمان مستوى أعلى من الحريات.
- رفع العقوبات عن قطاع غزة.
الخيار الثالث:
الاتفاق على إعادة الشرعية للمجلس التشريعي والاستمرار بمسار الاستحقاقات الانتخابية بمواعيدها التي نص عليها المرسوم الرئاسي، وخاصةً انتخابات المجلس الوطني وتأجيل الانتخابات التشريعية إلى ما بعد الرئاسية والمجلس الوطني.
الترجيح بين الخيارات:
مما لا شك فيه أن الحق والعدل يكون برفض التأجيل والتعامل مع من تنصل من المسار، على أنه جسم انقلابي انقلب على تطلعات وطموحات الشعب الفلسطيني، وضرب بعرض الحائط كل التفاهمات التي حصلت مع الشركاء الوطنيين (الخيار الأول)، إلا أن الشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني قد لا يحتمل الدخول في انقسام يعمق من الانقسام الحاصل.
كما أن إمكانية تنفيذ عصيات مدني في الضفة أمر فيه نظر، وليس من السهل تشكيل جبهة رفض من القوائم الانتخابية ضد فتح والسلطة وتشمل المنشقين، إذ أن أي مصالحة فتحاوية داخلية ستكون كفيلة بتعقيد المشهد بشكل مبالغ فيه.
مصالح الجميع تكون بالجلوس للحوار على قاعدة الخيارات الثاني والثالث وعدم التوجه للخيار الأول إلا إذا انغلقت أي آفاق للتوافق، ولا يبدو أن مصلحة قيادة فتح والسلطة إغلاق هذه الآفاق.