خاص قدس الإخبارية: جرس رنين الهاتف يرتج بيدي "عامر أبو الخير"، المتصل (ابن شقيقته) يحاول جس نبضه: "كيفك يا خال شو الوضع عندكم؟"، اعتقد عامر أن الأمور ستنتهي عند حدود اتصال عائلي، ابتسم:"والله تمام مبسوطين، وأنتم شو أخباركم؟"، ليدخل الأول في قلب الموضوع بعد تمهيد سريع: "شفت صورة وخبر لخالي علي بحكوا أنه متصاوب أو مستشهد مش عارف".
-"مستشهد؟" ..
خبر طار بعقل عامر دون أن يدري: "مستحيل؛ قبل ساعتين كلمته شوي بكلم أخوتي بتأكد".
قبل ذلك الاتصال وفي صباح الخامس عشر من أبريل/ نيسان 2021، ما إن أشرقت الشمس واستلمت مناوبتها في كبد السماء معلنة بدء نهارٍ جديد، حزم علي (42 عاما) نفسه للخروج من البيت باكرًا، قبل أن تقاطعه زوجته: "فش عليك شغل اليوم بـ (إسرائيل).. تطلعش"، لكن زوجها الذي يملك محلين للملابس بمدينة أريحا، أصرَّ على المغادرة: "مش حطول مشوار صغير وراجع"، وكأنه يقيم لنفسه مراسم الوداع دون أن يدري.
لكن ما حدث معه في الطريق غير مسار حياة العائلة، يروي شقيقه عامر لـ"قدس الإخبارية" على الطرف الآخر من سماعة الهاتف بقية التفاصيل: "ذهب أخي لوحده بسيارته لتفقد محليه، وخلال سفره في الطريق السريع الواصل بين رام الله وأريحا، أوقف سيارته لتعبئتها بالمياه".
ما إن ركن سيارته وترجل منها ورفع غطاءها، كان مستوطن يقود سيارة خلفه يعد العدة للانقضاض عليه من الخلف مثل وحش يبحث عن فريسة، "فتسارعت عجلات سيارته ودهسه بقوة فارق على إثرها الحياة على الفور، بعد أـن نزفت دماؤه، وكتب بذلك فصلا جديدا وجريمة أخرى ذيل المستوطن توقيعه عليها.
رحيل بلا ذنب ..
"لم نتوقع هذه الجريمة في يوم من الأيام، فأخي يسافر دائما بسيارته في كل أرجاء الضفة، ويحمل تصريحا ويعمل بالداخل المحتل في محل لبيع الخضار" لا زال شقيقه لا يصدق ما حدث، فـ "رفيق روحه" رحل "دون ذنب؛ فقط لأنه ذهب ليجلب لقمة العيش لأطفاله الخمسة (ولدان وثلاث بنات).
"استشهد أخي على الفور، محدش لحقه لأن الضربة أجت براسه".. قالها بتنهيدة الحزن الذي يعتمل صدره بلهجة عامية.
أخبر علي أطفاله وزوجته أنه "سيعود ولن يتأخر"، ودع أطفاله بأن طبع قبلة كعادته على وجنتي كل واحد منهم واستقبلت وجنته مثلها، غادر يحمل أحلام عائلته، يغامر لأجل لقمة العيش المغمسة بالمشقة والمحفوفة بالمخاطر، ففي الطريق وخارج مدينة أبراج عسكرية وحواجز وبنادق تشهر وتطلق زخات رصاصاتها لمجرد الشك.
لم يهنأ أولاده بتلك الطفولة التي حرموا منها وهم في أوج حاجتهم لحضن ودفء والدهم، للسند الذين يواجهون به قسوة الحياة ومرارتها، وصعوبة ظروفها، وشدتها، ليديه الحانية وقلبه الذي أغناهم بحبه عن العالم، لكن لم يبقَ من والدهم إلا اسمه المعلق على صدر البيت ومدخل بيت العزاء مكتوب فيه "الشهيد علي أبو الخير" وعلى شاهد من رخام يدلهم على قبره كلما اشتاقوا إليه.
سقطت من عيني شقيقه دمعة: "قبل يومين تحدثت معه، واتفقنا أن نذهب لزيارة أمي فقد كان يريد رؤيتها.. رحمه الله ".
غياب طويل
خلال الموجة الأولى من جائحة كورونا، اضطر علي للمبيت في مكان عمله بالداخل المحتل لمدة شهرين متواصلين بعيدا عن أسرته، بقيت تفاصيلها عالقة في ذاكرة شقيقه: "كنا نتحدث معه يوميا ونطمئن عليه، وكان يعترف لي أنه لولا حاجته لتوفير مصدر دخل لأولاده لما أقدم على الابتعاد عنهم لستين يوما متواصلا".
ولم يغن تواصله اليومي مع أطفاله عبر برامج المحادثات الهاتفية (الصوتية والمرئية) عن لحظة احتضان واحدة لأطفاله ليبل شوقه.
يرثي عامر شقيقه الشهيد بدمعه وحزنه: "نحن ستة أخوة، لكن علي الذي يكبرني بثلاثة أعوام، كان المقرب والمحبب لي، كأننا توأما (..) دائما نخرج معا تشابهنا بالشكل والصفات كان حنونا على أطفاله وأمه وأخواته أكثر منا".
"لما الواحد يفقد مثل علي، كأنه الساعة توقفت، الله يرحمه بقدرش أوصفلك كمية الحزن اللي جوانا عليه"، ولا غرابة في حجم هذا الحب من أخيه فالشهيد، كان أكثر الناس تواصلا مع عامر الذي سجن لدى الاحتلال عشر سنوات، محاولا تهوين عليه مرارة الأسر.
علي هو الآخر جرب الأسر لمدة خمسة أعوام على فترات متقطعة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وها هو يرحل شهيدا في جريمة مركبة نفذها مستوطن إسرائيلي لا تزال هويته مجهولة لدى العائلة التي توجهت لقضاء الاحتلال لرفع دعوى قضائية وهي تعرف أنه سيحصل على براءة أو ستقوم محاكم الاحتلال بالتغطية عليه بالادعاء أنه "مجنون" كما أغلقت عشرات الملف السابقة التي ارتكب فيها جنود الاحتلال جرائم بشعة بحق أطفال ونساء فلسطينيين.
وها هي أرواح المواطنين والأطفال والعمال تزهق في فلسطين "بأي ذنب قتل علي؟"، وقبله بأسبوع قتلت مستوطنة إسرائيلية بنفس الطريقة المسنة شفيقة أبو عقيل، بعدما دهستها قرب بلدة السموع بمدينة الخليل جنوبي الضفة الغربية، وخلال فبراير/ شباط الماضي دهس مستوطن مجموعة مواطنين خلال مشاركتهم في مسار سياحي بمنطقة الأغوار، واستشهد نتيجة ذلك المواطن بلال بواطنة من مدينة رام الله، وأصيب اثنان آخران بجروح متفاوتة.