مرة أخرى، يجد المواطن الفلسطيني العادي نفسه هو المسؤول الأول والأخير عن مواجهة تفشي جائحة كورونا، ووحيدا في مرمى التصدي لتبعاتها الخطيرة على مختلف مناحي حياته وسبل عيشه، دون الالتفات إليه وتقديم أشكال الدعم والمساعدة والحماية الاجتماعية الضرورية لكفالة أبسط حقوقه الإنسانية، وعلى رأسها الحق في الحياة والصحة والغذاء والماء والتعليم والعمل والسكن اللائق.
و بـ"الله الحامي" تنهي الحكومة خطابها أمس الذي أعادت فيه سرد الاجراءات ذاتها، مختارة هذه المرة صيغتها المخففة، ومتجاهلة عن دراية حقيقة عدم فعاليتها لوحدها في الحد من انتشار الجائحة والتخفيف من وطأة آثارها، وكذلك غياب القدرة الوطنية على تنفيذها ومتابعة ومراقبة انفاذها في كل المناطق الفلسطينية (كما رأينا على مدار عام كامل)، ومتجاوزة أيضا دور هذه الإجراءات في تعميق الفجوة وتغذية التفاوت بين فئات المجتمع، وجعل فيروس لا يميز بالإصابة أشد فتكا وتمييزا على من لا "رقبة" له.
وعلى الرغم من أهمية المسؤولية الفردية بالالتزام بسبل الوقاية في الحد من انتشار الفيروس، والدعاء، إلا أن الأمر يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك؛ فنحن بحاجة إلى حكومة تضطلع بمسؤولياتها في التعامل مع الآثار الصحية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه الجائحة، نحن بحاجة إلى تدخلات فورية تشمل الجميع وإلى خطط واستراتيجيات مرنة وعادلة تضمن التعافي من الجائحة على المدى المتوسط والبعيد، نحن بحاجة إلى المساءلة والمحاسبة عند الفشل وكلما كان هنالك إساءة في استخدام السلطة، نحن بحاجة إلى بناء الثقة وإلى الشفافية الكاملة وامكانية الحصول على كل المعلومات الضرورية، وإلى الاطلاع الدائم والمشاركة؛ لا أن ننتظر تسريبات اعلامية هنا، ومؤتمرات صحفية هناك يطل علينا من خلالها الناطقون بها كلما انتهت فترة صلاحية سابقتها أو صلاحية مراسيم الطوارئ؛ لتتخللها بعض المعلومات العامة المختارة بعناية، وتستعرض بعض الانجازات الضائعة في زحمة الفشل المتراكم بسبب ممارسات الحكم اللارشيد الغالبة.
مفهوم أنه لا حلول سحرية في مواجهة الأعباء والتبعات التي تلقيها جائحة كورونا، خاصة في ظل محدودية الموارد، وانتهاكات الاحتلال وقيوده، لكن هذا لا يعفي حكومتنا البتة من التزاماتها الأساسية بموجب القوانين الدولية والمحلية، حتى في ظل الأزمات، وبأن تتبنى في معرض معالجتها والاستجابة لها نهجا قائما على حقوق الإنسان يسري بالتوازي والتساوي بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويمكن هنا اقتراح بعض التدخلات العملية الضرورية لكفالة الحقوق الإنسانية الأساسية في ظل جائحة كورونا، وإعطاء الأولوية للفئات والمناطق الأشد تضررا والأكثر عرضة للتهميش دون الإخلال بقواعد المساواة وعدم التمييز، لبناء القدرة على الصمود وتحمل الاجراءات التقييدية وايجاد اقتصاد مقاوم، وذلك انطلاقا من التزامات دولة فلسطين بالقانون الدولي لحقوق الإنسان.
أولاً: التزام دولة فلسطين بضمان الحق في الحياة والصحة:
- أ- إلتزام دولة فلسطين بتوفير اللقاحات ضد فيروس كورونا:
ولما كانت عملية شراء اللقاحات تمول بالمال العام، فإن هذا يتطلب من الحكومة أن:
•تفصح بكل شفافية عن كافة تفاصيل الصفقات الخاصة بشراء اللقاحات وتكلفتها، وسبب اختيارها، والميزانيات المرصودة لعمليات الشراء القادمة، ومكامن العجز، وآليات التصرف بأموال المساعدات والمنح الخارجية، السعودية والإماراتية والقطرية والمصرية والتركية والكازخستانية والأوروبية ومنحة البنك الدولي، وغيرها، منحة منحة.
•الكشف عن الخطوات المتخذة لضمان الوصول العادل والشامل والآمن إلى اللقاحات الفعالة لكل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ بما في ذلك التفعيل والنشر الفوري لخطط التوزيع وفق الأولويات الصحية المحددة بموجب البروتوكولات الصحية العالمية، وتحديد المدد الزمنية، ونشر القوائم بالأسماء.
•إيجاد منصات دائمة العمل وسهلة الوصول ومتوفرة للجميع لغايات التسجيل لتلقي اللقاح.
•محاربة المحسوبيات والوساطات لاختراق صفوف الانتظار ومحاسبة المسؤولين، أي كانت صفتهم، والاعلان عن الإجراءات المتخذة بحقهم.
-ب- أما فيما يخص التزام دولة فلسطين بضمان الحق في الوصول إلى الخدمات الرعاية الطبية والحصول عليها في ظل أزمة كورونا:
يجب وضع تطوير القطاع الصحي الفلسطيني على سلم الأولويات القصوى، وتسخير كافة الإمكانيات الحكومية والخاصة والأهلية لمكافحة هذا الوباء، وضمان حصول الجميع على رعاية طبية وخيارات علاجية ميسورة التكلفة ويسهل الحصول عليها دون تمييز، مع مراعاة حاجات النوع الاجتماعي، بما يشمل توفير الرعاية الوقائية والعلاجية والاستمرار بإجراء الفحوصات، وعلى نحو أوسع، والكشف عن عدد الإجمالي للفحوصات التي يتم اجرائها يوميا، وليس فقط الإعلان عن عدد الحالات الإيجابية، وشراء المعدات الطبية والأسرة وأجهزة التنفس الصناعي، وتوزيعها على المناطق بشكل عادل، وايجاد الحلول البديلة عند بلوغ القدرة الاستيعابية للمستشفيات العامة حدها الأقصى، كإيجاد مستشفيات ميدانية ووضع اليد على المستشفيات الخاصة وتعويض أصحابها.
كما يجب عدم تجاهل إضراب الأطباء والاستجابة لمطالبهم والعمل على توفير الحماية للعاملين في القطاع الصحي وكذلك الكشف عن دور وأثر المساعدات والمنح الخارجية التي أتتنا لدعم جهودنا في مكافحة هذا الوباء في تطوير القطاع الصحي.
ثانياً: التزام دولة فلسطين بضمان الحق في العيش اللائق والأمن الغذائي:
•صرف المساعدات النقدية الطارئة بشكل دوري، وعدم حصر هذه المسؤولية بمنح القطاع الخاص، واعتماد معايير جديدة مرنة مستجيبة لتحديد الأسر المحتاجة والمتضررة.
•صرف المساعدات العينية والغذائية وتوفير المياه النظيفة.
•كفالة ورعاية أسر المعيلين المتوفين بفيروس كورونا.
•مراقبة أسعار السلع والخدمات ووضع قيود مشددة على رفعها، ومعاقبة المخالفين.
•إعادة تعطيل نفاذ النصوص القانونية الخاصة بحبس المدين المتعثر عن سداد دينه للغير (إن إلغاء العمل بهذه النصوص هو أصلا التزام يقع على عاتق دولة فلسطين منذ عام ٢٠١٤ بموجب الانضمام إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية).
•تسهيل الاقتراض بفوائد منخفضة.
ثالثاً: التزام دولة فلسطين بضمان الحق في التعليم:
وفي ظل الإغلاق المتكرر للمدارس والجامعات والمعاهد التعليمية:
•التخطيط الشامل لإعادة فتح المدارس والمؤسسات التعليمية مع ضمان كفالة سلامة الجميع، وذلك من خلال اتباع قواعد السلامة العامة والرقابة على الالتزام بها.
•إعداد دراسات وإحصاءات شاملة وحساسة حول أعداد الطلبة الذين فاتتهم فرصة اللحاق بالسنة الدراسية، والمتسربين من المدارس، واعتماد الخطط اللازمة لإعادة دمجهم.
•الاعتراف بتفاقم مشكلة التفاوت في الحصول على فرص التعلم بشكل عادل وشامل والتكافؤ في التحصيل العلمي، لا سيما للفتيات وذوي الاعاقة وأبناء الأسر الفقيرة، وايجاد الحلول المناسبة لها، وإعداد برامج للتعويض، ومعالجة اشكالية عدم القدرة على التكيف مع الأنماط الجديدة للتدريس، والحصول على أدواته، مثل جهاز الحاسوب والانترنت والبيئة المناسبة.
•دعم احتياجات المعلمين وتدريبهم للقدرة على تطبيق طرق التعليم عن بعد.
•عدم الاكتفاء بالحلول المريحة لصانعي القرار، بإغلاق المدارس وعرقلة الحق بالتعليم دون اتخاذ أي من الإجراءات الأخرى.
•الضغط على الجامعات والمعاهد من أجل تطبيق خصومات على الأقساط التعليمية لعدم انتظام الدوام والتحول إلى التعليم عن بعد، مما يؤدي إلى خفض التكلفة التشغيلية لهذه المؤسسات.
•دعم صندوق إقراض الطلبة بشكل عاجل.
رابعاً: التزام دولة فلسطين بضمان الحق في الحماية الاجتماعية والعمل:
•دعم قطاعات العمل المنتظمة وغير المنتظمة بشكل مباشر وتقديم الإعفاءات، لا سيما للمشروعات الصغيرة و المتوسطة.
•تقييد قدرة أصحاب العمل على التسريح وإنهاء العمل وتخفيض الأجور، وضمان حصول العامل على حقوقه العمالية، بما في ذلك الحد الأدنى للأجور وإجازاته المدفوعة وتأمينه الصحي.
•اتخاذ تدابير حماية خاصة لعمل النساء، بما في ذلك المرونة في أداء وساعات العمل، كونهن يتحملنّ مسؤوليات رعاية إضافية أكثر من الرجال عند الإغلاق، خاصة إغلاق المدارس، ما يقلل فرصهن بالحصول على الوظائف ويصعب عليهن الحفاظ على عمل المأجور.
•مراقبة تطبيق قانون العمل والأنظمة المعمول بها في فترة الجائحة، لا سيما تلك المتعلقة بالسلامة العامة، والالتزام بها في كافة أماكن العمل، وتفعيل دور وزارة العمل بهذا الخصوص.
•إعادة العمل على صياغة قانون بشأن الضمان الاجتماعي يكفل الحماية الاجتماعية وفقا للمعايير الدولية، والعمل على اقراره بأسرع وقت ممكن.
خامساً: التزام دولة فلسطين بضمان الحق في السكن اللائق:
•الضغط من أجل تأجيل سداد دفعات الرهون العقارية للبنوك و/أو التقليل من قيمة أقساطها، وعدم تراكم الفوائد بسبب التأجيل الدفع، ووقف حجز العقارات السكنية المرهونة عند العجز عن السداد.
•عدم السماح بتسجيل دعاوى إخلاء المأجور للعقارات السكنية أمام المحاكم النظامية الفلسطينية، بسبب تعثر المستأجر عن دفع بدل الاجارة، ووقف الدعاوى المرفوعة حاليا بهذا الخصوص ووقف عمليات الإخلاء الحاصلة على خلفية التعثر عن السداد.
•اعتبار عقود الإيجار المتعلقة بالعقارات السكنية التي تقع خارج حدود البلدية ممتدة حكما.
وبالإضافة إلى ما ورد أعلاه، يجب العمل على تعزيز كافة الجهود الهادفة إلى مكافحة العنف الأسري، لا سيما ضد النساء والفتيات والأطفال لتكون جزءًا رئيسيًا من خطط الاستجابة الوطنية في ظل جائحة كورونا، والعمل على إقرار قانون مكافحة العنف ضد الأسرة بأسرع وقت ممكن. كما يجب اتخاذ كافة التدابير اللازمة لحماية الأشخاص المحتجزين الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن من خطر العدوى بسبب الاكتظاظ، وإعادة العمل على تقليص عدد النزلاء والموقوفين من خلال الإفراج المشروط المناسب أو المبكر، والمحتجزين احتياطيا على خلفية جرائم غير خطيرة أو الأقل الخطورة، وأولئك الذين يكون احتجازهم غير ضروري أو غير مبرر، خاصة بعد صدور المرسوم الرئاسي بشأن الحريات العامة.
في الختام، لا بد من التأكيد أنه لا حلول سحرية أو سهلة مع هذا الوباء حتى بعد مرور عاما كاملا على انتشاره، ولكن لا بد لنا من الوقوف ومصارحة الذات وتقييم الأداء بهدف التحسين وتبني الحلول المستحدثة والتي تتناسب ومقدراتنا الوطنية، والاستعانة بالممارسات الفضلى، وذلك للوصول بالمحصلة إلى حماية شاملة لحقوق الإنسان الفلسطيني، أينما كان، وفي كل الأوقات.