تُنشر بالشراكة مع "متراس".
الجمعة 24 يناير/ كانون الثاني، شارك الشّابُ الفلسطينيّ محمد جعّو إغبارية (21 عاماً) في مظاهرة شعبيّة على مدخل مدينة أم الفحم، نُظّمت ضمن حراكٍ شعبيّ تصاعد مؤخراً في المدينة ضدّ تفشي جرائم القتل في الأراضي المحتلة عام 1948. في الأسبوع التالي، نُظّمت مظاهرة أخرى لنفس الهدف، لكن محمد لم يحضر، فقد قُتل رمياً بالرصاص من قبل "مجهولين"، ليصبح الضحية الرابعة من نفس العائلة خلال عامٍ ونصف.
يُضاف محمد جعّو إلى قائمة طويلة من ضحايا العنف المجتمعيّ والجريمة في الأراضي المحتلة عام 1948. منذ العام 2000 إلى اليوم سقط أكثر من 1700 فلسطينيّ وفلسطينيّة ضحايا لهذه الجريمة، وفي العام الأخير وحده قُتل 113 فلسطينيّاً. بدأ العام الجديد بأسماء أخرى أُضيفت إلى القائمة، فقد بلغ عدد الضحايا في الشهر الأول من 2021، عشرة فلسطينيين.
على مدار ما يقارب 20 عاماً من تصاعد جرائم القتل في أراضي الـ1948، وبالأخصّ مع تصاعده الدراماتيكي في السنوات الخمس الأخيرة، اختبر النّاسُ شعوراً "جديداً"؛ الخوف والقلق في حاراتهم ووسط بيوتهم وفي أحضان عائلاتهم، القتل في وضح النهار، القتل في قلب الأزقة ووسط النّاس، والقتل بوحشية وبأحدث الأسلحة.
في ظلّ هذا وجد الناسُ أنفسهم مُثقلين بألم الفقدان والقلق على المستقبل، بلا برامج مجتمعيّة فعّالة وبلا خطط صادقة غير مرتبطة بـ"إسرائيل" تدلّهم على الطريق. في بعض الحالات، كانت الجرائم تمرّ بصمتٍ مُطبق، فيما بدا أنّه "اعتياد" وعجزٌ عن الفعل وانعكاسٌ لقلّة الحيلة. وفي أحيانٍ أخرى، دفعت الجرائمُ النّاسَ إلى الشّوارع للتظاهر فيها وإغلاقها أمام حركة السير بين المدن والبلدات، دون أن يسلموا من ركوب بعض الشخصيات المحليّة الموجة ومحاولتهم تحديد سقف المظاهرات وتحويلها إلى "مهرجان خطابيّ" لا أكثر.
وبالتوازي مع ذلك، استمرت الأسطوانة المشروخة التي تُكررها بعض القيادات المحليّة ومؤسسات مجتمع مدنيّ بمطالبة "الشرطة بالتدخل لجمع السّلاح وتحمّل المسؤولية"، فيما عكس انسلاخاً عن فهم الواقع وعن الوعي بدور "إسرائيل" نفسها في زرع هذه الجريمة ورعايتها، بل وضبطها وفق مصالحها.
بين ذلك الاحتجاج الشعبيّ المتأرجح وبين "مطالبات التدخل"، تصاعد على مدار الشهر الأول والثاني من هذا العام حراكٌ شعبيّ غير مسبوق ضدّ الجريمة، تركّز في مدينة أم الفحم بالذات. نجحت مجموعة من الشباب من مختلف الخلفيات الحزبيّة إضافةً إلى مُستقلين وناشطين مجتمعيين في توحيد جهودهم وطاقاتهم تحت عنوان "الحراك الفحماوي الموحّد"، وتابعوا خلال الشهرين الماضيين تنظيم 6 مظاهرات كلّ يوم جمعة. تركّزت تلك المظاهرات أمام مقرّ الشّرطة الإسرائيلية على مدخل المدينة باعتبارها الراعي الأكبر للإجرام. كما أنّها استقطبت فئات اجتماعيّة وسياسيّة متنوعة، وشارك فيها أهالي الضحايا، وواجهت قمعاً مختلف الأشكال من مخابرات الاحتلال وشرطته.
كيف تحرّك الشارع؟
في 7 يناير/كانون الثاني 2021، دعت مجموعة من الشباب الناشطين في أمّ الفحم إلى مظاهرةٍ تحتجُّ على تزايد جرائم القتل، وتطالب بإيجاد حلٍّ جذريّ لها. كان ذلك بعد تعرّض الدكتور سليمان إغبارية، رئيس بلدية أم الفحم سابقاً، وأحد أبرز قيادات الحركة الإسلاميّة الشماليّة قبل حظرها عام 2015، لإطلاق نار أدّى إلى جروح خطيرة في مختلف أنحاء جسده. في الخامس من الشهر ذاته، وقعت جريمة قتل أخرى في بلدة كفرقرع القريبة من أم الفحم، سقط ضحيتها الشاب سليمان نزيه مصاروة. فجع أبناء البلدة بالفقيد، وخرجوا بعد جنازته لإغلاق شارع وادي عارة (رقم 65)، ووقعت في المكان مواجهات مع شرطة الاحتلال.
في وقتٍ سابق لهاتين الجريمتين، وقعت جرائم أخرى أسفرت عن قتلى وإصابات في أماكن متفرقة من الجليل والمثلث. ومع تتالي تلك الجرائم بدا أنّه قد "طفح الكيل"، وأنّ مشاعر الغضب والقلق والقهر المتراكمة بدأت تتلمس طريقها نحو الشّارع. ويمكن القول إنّ سقوط ضحايا من دوائر اجتماعيّة معروفة ومنخرطة في العمل العام وبعيدة عن كل ما يخصّ عالم الجريمة المزعوم، أدّى إلى اتساع دائرة الغضب أكثر فأكثر، ودفع إلى إعلاء الصّوت ضدّ الجريمة.
تلاقى هذا الغضب المتصاعد مع حالة شبابيّة نشطة بدأت هي الأخرى تتصاعد في السّنوات الأخيرة في أم الفحم. تكوّنت تلك الحالة من مجموعات شبابية انخرطت في العمل الاجتماعيّ والتثقيفي (كزيارة القرى المهجرة ومساندة المحتاجين وغير ذلك)، وبعضها خرج بمبادرات شعبيّة هدفها معالجة مظاهر العنف. استطاعت تلك الحالة الشبايبّة النشطة التقاط الغضب ونقله إلى مستوى شعبيّ من التنظيم والتظاهر. وهكذا بدأت أولى مظاهرات أم الفحم في الثامن من يناير واستمرت حتى الآن للأسبوع السابع على التوالي.
خلال هذه المظاهرات، قُتل الشاب محمد جعّو، الذي كان لتوه قد عاد من إحداها. ومن ثمّ قتلت شرطة الاحتلال الشاب أحمد حجازي من طمرة في الجليل، ومن ثمّ قتل الشّاب القيادي السابق في الحركة الإسلاميّة الشمالية محمد أبو نجم من يافا. غذّت هذه الحوادث من غضب النّاس ودفعت بقرى وبلدات أخرى للتظاهر. بدا هذه المرة وبكل وضوح علاقة الشرطة بتصاعد الجرائم، وبدا أيضاً أن هناك أهداف أخرى تحقق من خلالها؛ تصفية بعض الكوادر النشطة وذات الأثر مجتمعيّاً.
الشرطة أصل الورطة
في حين خفتت معظمُ التظاهرات في بلدات الداخل، إلا أن أم الفحم استمرت في مظاهراتها الأسبوعيّة. تركّز التظاهر حول موقعين اثنين، أولاً شارع وادي عارة، وهو شريان حركة رئيسة من وسط فلسطين نحو الجليل، وثانياً، أمام مقرّ الشرطة الإسرائيلية الذي افتتح عقب الانتفاضة الثانيّة (تقريباً عام 2003).
في الأسبوع الثاني من بدء التظاهر، دعت لجنة المتابعة العليا واللجنة الشعبيّة إلى التجمع في خيمة اعتصام مقابل مركز الشرطة، لكنّ قليلين لبّوا الدعوة. عبّر الشبان عن رفضهم لذلك على مواقع التواصل الاجتماعيّ تحت وسم #تابعينا_يا_متابعة، في إشارة إلى أنّ النّاس في واد ولجنة المتابعة في وادٍ آخر، وأنّهم قد خطوا خطوة متقدمة نحو التظاهر والاحتجاج بعيداً عن مجرد الاعتصام في خيمة. وهكذا، لم تصمد الخيمة لأكثر من أسبوع، وتركّزت المظاهرات في الشوارع.
على مدار الأسابيع الأخيرة، تبدأ المظاهرة عادةً بالتجمع لصلاة الجمعة، والتي يكون موضوع خطبتها العنف والجريمة. يدعو الخطباء في حديثهم إلى ضرورة البحث عن "حلول" للعنف، رغم عدم وضوح شكل هذه الحلول، إلا أنّهم يؤكدون بتعابير مختلفة على ضرورة "اقتلاع شوكنا بأيدينا". بعد الصلاة، يتوجه النّاس نحو مقرّ الشّرطة أو نحو الشّارع لإغلاقه. في إحدى المظاهرات التي جاءت بعد مقتل محمد جعّو، صلّى النّاس الجنازة عليه في وسط الشّارع ومن ثم جابوا بجثمانه شوارع المدينة وصولاً إلى دفنه.
أمام مقرّ الشرطة، أو في الشّارع، بدا واضحاً أن من خرج لمواجهة الجريمة يرى في شرطة الاحتلال فاعلاً مركزيّاً في تغذية تلك الجريمة ورعايتها. قد يؤدي ذلك بالبعض للإنزلاق إلى توجيه اللوم للشرطة على "تقصيرها" في أداء "واجبها" والمطالبة بإغلاق مقرّها "إذا لم تقم بعملها".
أما آخرون، وصوتهم واضح في المظاهرات، فيعرفون أن الشّرطة ليست محلّاً للإصلاح، وأنّ انخراطها في السّكوت عن الجريمة والأهمّ في رعايتها هو انخراط بُنيويّ من صلب تكوينها ورؤيتها، وأن الحكومة التي تتبع لها هذه الشّرطة لا يمكن أن تكون مصدراً لخطّة حقيقية تقضي على الجريمة.
وهكذا، تُسمع في المظاهرات هتافات تطالب بإغلاق مقرّ الشّرطة: "ما منفاوض الشرطة، الشرطة أصل الورطة"، "سدّ المركز سدّ سد، لا بيرد ولا بيصدّ"، وأحياناً تجمع الهتافات المجرمين جميعاً فتقول: "أمّ الفحم للأحرار مش للشرطي والغدّار"، أو"لا شرطي ولا أجير اطلع برة يا سنجير" (والسنجير: تعبير بالعاميّة يُشير إلى العملاء والمتعاونين)، أو ببساطة: "ارحل عنّا يا محتل".
يضع هؤلاء في بالهم أنّ كلّ ما صُدّر من "خطط حكوميّة" لم يؤدِ إلا إلى المزيد من الجريمة، والمزيد من تشجيع انخراط الشباب الفلسطينيين في الشّرطة. وفي إشارة إلى هذه الخطط والدفع نحوها من قبل بعض أعضاء الكنيست، علّقت على مدخل المدينة لافتة تقول: ""عضو بعبّي بالجيبة والبوليس معيّشنا بغابة". بهذا المنطق، يصبح التقدير لبعض القيادات المحليّة التي تشارك في المظاهرات تقديراً حذراً، لأنه يبقى في أذهان الناس مرتبطاً بمدى التفاف تلك القيادات حولها وعدم تحوّلها للدور التقليدي في احتواء الغضب وتوجيهه، كمحاولة بعضها الحصول على ترخيص من الشرطة حتى تكون المظاهرة "قانونيّة"، وهو ما يرفضه الشّبان.
في المقابل، لا تتوانى الشرطة عن محاولات قمع المظاهرات بأشكال عدة؛ الغاز المسيل للدموع، شاحنات المياه العادمة، وحدات المستعربين، والضرب والتنكيل، والاعتقال. يُحقق مع غالبية المعتقلين بتهم "تهديد الأمن وتعطيل عمل الشرطة"، ويُفرج عنهم بشرط التعهد على عدم العودة إلى المظاهرات، وأحياناً مع أمر إبعاد من البلدة أو حبسٍ منزليّ لمدّة معيّنة.
بالإضافة إلى ذلك، تحاول الشّرطة إرهاب الشبان المعروفين بمشاركتهم في المظاهرات من خلال تحذيرهم في مكالمات هاتفية من خطر الاعتقال، أو من خلال محاولة ردعهم عن كتابة أي شيء على مواقع التواصل الاجتماعيّ. وضمن إطار الترهيب ذاته، تتصل الشّرطة بالبعض لِـ"تُشجعهم" على حضور المظاهرات و"الالتزام بحقّ التظاهر السلميّ".
وأخيراً…
ينزل المتظاهرون إلى الشوارع مع غضبٍ حقيقيٍّ ورغبة صادقة بالقضاء على الجريمة. هم يعرفون أنّهم لا يمتلكون تصوّراً واضحاً ومُحدّداً عن "إمكانيات الحلّ وأفقه"، كما أنّهم غير مطالبين أصلاً بتقديم هذا "الحلّ" في ظل ظروف الحالة الاستعماريّة المعقدة التي نعيشها. لكن ما يُميّز هذا الحراك أنّه أولاً نجح في الاستمرار وجذب فئات ذات خلفيات اجتماعيّة وسياسيّة متنوعة من أم الفحم، وولّد حالةً وحدويّةً فريدةً وجديدة على مستوى التفاعل بين هذه الفئات. وذلك على عكس المظاهرات التي دعت لها في سنوات سابقة اللجنة الشعبيّة والتي كانت تأخذ طابع "الواجب الرسميّ" الذي يجب أن ينتهي بعد انطفاء الكاميرات والتي لم تجذب لها فئة الشباب بالذات.
وعدا عن المركب الشبابيّ في هذا الحراك، فإنّه متّكئٌ كذلك على تاريخها النضاليّ القريب؛ في مواجهة مصادرات الأراضي في هضبة الروحة عام 1998، وفي التصدي لإعلان مائير كاهانا نيّته اقتحام المدينة، وفي سيرة شهداءها. وهو تاريخٌ يُعيد الناس استذكاره في المظاهرات الأخيرة من خلال ترديد أغنية ألتراس فريق كرة القدم في أم الفحم، والّتي تُذكّر بهذه الأحداث وبهويّة البلد الفلسطينيّة.
أما الأمر الثاني، فقد أعادت الشعارات التي رفعتها هذه المظاهرات الروحَ إلى الحقيقة الراسخة، والتي تُغيّب عنا كثيراً بفعل قريب أو عدوّ، التي مفادها أن الجريمة صناعة إسرائيليّة تتم تحت أعين الشّرطة ورعايتها. إعادة الروح لهذه الحقيقة التي مهما بدت بديهية، ضروريّة في مواجهة خطابٍ بات يروج له دون حياء بعض القيادات والمؤسسات المحليّة التي تناشد الشرطة استخدام أدوات الشاباك لمزيد من قمعنا باسم "محاربة الجريمة". وهكذا يبقى الأمل معقوداً بهذه المظاهرات أن تكون بذرة لخطاب وطنيّ شامل واعٍ بدور المجرم الأكبر- "إسرائيل".